العدسة: محمد العربي

أثارت القرارات الإثيوبية الأخيرة باعتقال عشرات القيادات العسكرية المسئولة بمجموعة “ميتيك” التي يديرها الجيش الإثيوبي وتتولى عملية تشغيل سد النهضة بتهمة الفساد، والتي كان آخرها الثلاثاء 13 نوفمبر الجاري باعتقال اللواء  كنف داينو المدير التنفيذي لشركة ميتيك، قبل هروبه عن طريق الحدود مع السودان، وكذلك القبض على الرئيس السابق لوكالة أمن شبكات المعلومات العميد تكل برحان ولد أرجاي، أثارت هذه القرارات كثير من التساؤلات المتعلقة بفساد المؤسسات العسكرية وخاصة في مجتمعات العالم الثالث.

وكانت السلطات الإثيوبية قد أعلنت الاثنين القبض على العديد من جنرالات الجيش، لتورطهم في قضايا فساد متعلقة بمشروع “سد النهضة” وانتهاكات حقوق الإنسان، ومحاولة الانقلاب على رئيس الوزراء، وطبقا لبيان النائب العام الإثيوبي، فإن التحقيق استغرق خمسة أشهر وأن المسؤولين اعتقلوا مطلع الأسبوع الجاري، حيث كشفت التحقيقات في عمليات شراء قامت بها مجموعة “ميتيك” التي يديرها الجيش، عن فساد ضخم، تمثلت في قيام ميتيك بعمليات شراء قيمتها أكثر من ملياري دولار، دون طرح أي عطاءات على مدار ست سنوات.

وتشير معلومات النائب العام أن السلطات اعتقلت كذلك 28 آخرين من موظفي المجموعة، وضباط الشرطة ليبلغ العدد الإجمالي للمعتقلين 63 شخصا.

من هي ميتيك

“ميتيك” اختصار للمجمع الصناعي العسكري بإثيوبيا، وتأسست كشركة عام 2010، وكان رئيسها التنفيذي طوال ثماني سنوات، الميجور جنرال كنف دانيو، الذي استقال في شهر أبريل الماضي، عندما تولى رئيس الوزراء أبي أحمد السلطة، وهي تخضع لقوانين جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية بموجب موسوم مجلس الوزراء.

وتعمل (ميتيك) طبقًا لمعايير السوق الحرة مع التزامات خاصة تُمكّن المستثمرين المحليين والأجانب من التمتّع بالشراكة والتعاون معها، ويتمثّل الهدف الرئيسي من تأسيسها في إحداث فروق جوهرية والقيام بدور رائد في عملية “تصنيع” إثيوبيا.

وفي أغسطس الماضي أعلن أبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، أن الشركة أخفقت في القيام بالأعمال الهيدروميكانيكية وتوفير المعدات الكهروميكانيكية للسد، بما في ذلك التوربينات المطلوبة، ما جعل الحكومة تنقل العقد إلى مقاول آخر لديه إمكانيات وخبرة عالمية، من أجل مواصلة العمل في المشروع.

وقال آبي أحمد إن شركة الهندسة والمعادن “ميتيك” لم تطلع من قبل على أي بنية تحتية مثل سد النهضة الكبير، ناهيك عن بناء شيء مثله.

ليست إثيوبيا وحدها

وتعد الحالة الإثيوبية هي الأكثر وضوحا بعد تولي آبي أحمد مسئولية الحكومة، ليبدأ خطوات إصلاحية طالت المؤسسة العسكرية التي كانت تشكل صداعا مزمنا للتحالف الوطني الذي فتح الطريق أمام رئيس الوزراء الشاب للقيام بثورة إصلاحية شاملة.

وبعيدا عن الحالة الإثيوبية، فإن العديد من الدراسات والكتابات التي تناولت الدور الذي تقوم به المؤسسات العسكرية في الحكم والاقتصاد أجمعت على أن الفساد العسكري هو المقدمة الأولي لخراب الدول، وتشير دراسة للكاتب حافظ البرغوثي، إلى أن ثورات الربيع العربي كانت بسبب فساد الأنظمة التي تعود جذورها لمؤسسات عسكرية، ولذلك فإن هذه المؤسسات العسكرية انقلبت على هذا الربيع، في دول مثل مصر وليبيا، لتحافظ على مكاسبها التي حققتها طوال عشرات السنوات من الحكم والفساد.

ويستدل البرغوثي بمقولة للسفير الأمريكي الأسبق في اليمن جيرالد فايرستاين بالفساد إن استشرى في المجتمع خاصة في المؤسسة العسكرية فإن آثاره تكون أكثر كارثية، وطبقا لما كشفه فايرستاين عام 2012 فإن قادة كباراً في الجيش اليمني قاموا بسلب مبالغ مالية من ميزانية البلاد كرواتب.

ويتحدث البرغوثي عن الحالة العراقية مؤكدا أن المؤسة العسكرية بها نموذج لاتقان الفساد، حيث قام كبار الضباط بصرف رواتب بلغت 4 مليارات دولار بأسماء وهمية لـ 50 ألف جندي وهمي خلال حكم نوري المالكي.

وطبقا للبرغوثي فإن الفساد عندما يتغلغل في المؤسسة العسكرية والأمنية فإن آثاره تكون أشد على المجتمع لأن هناك من يحمي الفساد بجبروت السلطة ويقمع محاربته، وتكون النتيجة تهتك اقتصادي وأمني وسياسي معاً.

حاميها حراميها

وطبقا للمراقبين فإن المؤسسات العسكرية تضع نفسها دائما فوق القانون والدستور من أجل حماية مكتسباتها، بحجة الأمن القومي، كما في الحالة المصرية، وهي بذلك ترفع شعار حاميها حراميها، لرفضها المساءلة والمحاسبة.

ويستدل المراقبون بتسريب قديم لرئيس الإنقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرا للدفاع، وكان يتحدث فيه مع كبار قيادات القوات المسلحة عن وضعهم بعد ثورة يناير، واستفزهم بخبث عندما طالبهم بالاستعداد للمساءلات البرلمانية والسياسية عن إنفاق الجيش، على عكس ما كان يحدث في الماضي.

ويرى أصحاب هذا الرأي أن حرص الأنظمة العربية سواء الجمهوريات أو الممالك على تولي زمام المؤسسات الأمنية والعسكرية ليس فقط من أجل تأمين مناصبهم، وإنما أيضا لضمان الحفاظ على منافعهم المشتركة، ولذلك فلم يكن غريبا أن تعلن الجزائر منذ أيام عن حكم بحبس 6 من كبار قادة الجيش بتهم الفساد، من بينهم 5 جنرالات، وهو ما وصفه بعض المراقبين بالجزائر بأنها تأتي ضمن حملة موسعة لمحاربة الفساد وتطهير الجيش، بينما اعتبره آخرون نتيجة الخلافات والصراعات السياسية التي تعيشها الجزائر منذ سنوات في إطار البحث عمن يخلف بوتفليقة المريض.

ولا تعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها حبس شخصيات عسكرية بالجزائر، حيث سبقتها حالات أخرى عام 2015، تمثلت في اعتقال القائد السابق لقوات مكافحة الإرهاب في إدارة المخابرات العامة، بتهمة إتلاف وثائق رسمية بعد إقالته.

المصريون نموذج فريد

ويرى خبراء أن المؤسسة العسكرية بمصر تمثل نموذجا خاصا في الفساد، حيث لم يعد متوارى كما كان في السابق، بل أصبح ظاهرا للعيان، ومن خلال ترسانة من التشريعات التي حصنت العسكريين من أية مساءلة أو ملاحقة.

فمنذ نجاح ثورة يناير 2011، والمؤسسة العسكرية تتحرك ككتلة واحدة لمواجهة بزوغ نجم التيار الإسلامي، وقد استمعت “العدسة” لأكثر من حديث عن مشاركين بارزين في الأحداث التي أعقبت الثورة وحتى ما بعد انقلاب السيسي في يوليو 2013، عن محاولات الجيش المستمرة في الحفاظ على أن يظل فوق القانون وهو ما تمثل في عدة إجراءات بدأت بالتضحية بمبارك نفسه، قبل أن تنفلت الأمور وتتحول الثورة من سلمية إلى طريق آخر يمكن أن يلتهم في طريقه المؤسسة العسكرية نفسها.

وتأتي الخطوة الثانية للمؤسسة العسكرية في أن تظل فوق المحاسبة بوثيقة السلمي الدستورية التي طرحها نائب رئيس الوزراء وقتها علي السلمي، ووضعت القوات المسلحة في مكانة خاصة بالدستور المقترح، ولكنها شهدت رفضا قاطعا من جماعة الإخوان المسلمين التي نزلت للشارع مرة أخرى في رسالة للمجلس العسكري بأن مخططه للتحصين، سيكون الرد عليه من خلال الميدان، وبالفعل سحب السلمي وثيقته التي تغاضي فيها العلمانيين واليساريين عن الوضع المميز للجيش مقابل عدم منح الفرصة للإخوان المسلمين بتولي زمام الحكم.

ويشير المراقبون إلى أن الجيش عندما رأى الدكتور محمد مرسي يضع أحد قدميه في القصر الرئاسي قبل انتهاء جولة الإعادة من المرحلة الثانية للانتخابات الرئاسية 2012، بادر بتحصين نفسه من خلال إصدار الإعلان الدستوري المكمل قبل غلق صناديق الاقتراع بساعة واحدة، ليحتفظ لنفسه بحق التشريع والميزانية، ويحصن مراكز قياداته من العزل أو التغيير، وبهذا الإعلان أصبح الرئيس القادم مجرد ديكور لا يحكم في شيء.

وطبقا لمسار الأحداث فإن الفترة التي تلت تولي الرئيس مرسي مقاليد الحكم في 30/6/2012، وحتى قراره بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل في 12 /8/2012، كان الصراع على أشده بين المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي والرئيس مرسي، ليتوقف الصراع لفترة بعد عزل المشير والفريق وإلغاء امتيازات العسكر.

ويؤكد الذين تحدثت إليهم “العدسةأن فساد القيادات العسكرية في المجلس العسكري، كان طريق مرسي أيضا في عزل طنطاوي وعنان، كما كان سببا في وصول السيسي لمنصبه، لأنه الذي قدم بنفسه ملفات الفساد ضد المشير طنطاوي والفريق عنان للرئيس مرسي، وهي نفسها الملفات التي هدد بها السيسي عنان قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبعدها تم اعتقال الفريق لإزاحته من طريق السيسي.