أحمد حسين

وكأن غبار الأزمات بين البلدين العربيين الجارين الشقيقين قد انقشع، فتندفع إحداهما لافتعال أزمة جديدة، لن تزيد الطين إلا بلة.

ولطالما تجددت الخلافات بين الجزائر والمغرب منذ عهد الاستعمار الفرنسي، لكن كانت لها أسبابها الجدية التي يمكن تفهمها، إلا أن الأمر هذه المرة لم يخرج عن طبق طعام!.

أويحيى والكسكسي!

ربما تخلى رئيس الوزراء الجزائري في هذا الموقف عن دبلوماسيته المعهودة، ليجعل من طبق الكسكسي أو “الكسكس” الشهير مادة لتغذية خلافات لم تنقطع مع جيرانه المغاربة.

وقال “أويحيى” إن دولة جارة وشقيقة (في إشارة واضحة إلى المغرب) تحاول احتكار الكسكسي وإظهاره على أنه طبق خاص بها، داعيا منتجي الكسكسي إلى تطوير إنتاجه، مشيرا إلى أن هذا الطبق له أصوله في الجزائر كذلك.

وأضاف، في كلمة مقتضبة على هامش افتتاحه معرض الإنتاج الوطني المنتجين في مجال الصناعات الغذائية، إلى تطوير إنتاج “الكسكس”، من أجل الرد على المغرب.

وتابع خلال تذوقه طبق كسكسي: “هناك دولة شقيقة وجارة، جعلت الكسكس منتوجها هي فقط في الدنيا، اثبتو العكس وأظهروا الكسكس الجزائري، لأننا لا ننسب الكسكس إلينا، بل نقول إنه مغاربي”.

ورغم أن السؤال وُجه لرئيس الوزراء الجزائري باللغة الفرنسية، وسبقته إجابات أخرى بذات اللغة، إلا أنه أصر على أن تكون إجابته الأخيرة الملمحة إلى المغرب باللغة العربية.

لكن الأمر ربما يعدو كونه مجرد خلاف على أصول طبق طعام وأكلة شعبية، بل له أبعادا دولية، حيث اشتعلت منافسة بين البلدين بشأن طبق الكسكسي، قبل أن يتم اقتراح تصنيفه كتراث عالمي لليونسكو وأن تكون نسبته إلى الجزائر والمغرب وتونس.

وسابقت الجزائر الزمن من أجل تقديم ملف للمنظمة بخصوص موسيقى “الراي”، خوفا من تسليم المغرب ملفا ونسب هذا الفن إليه.

سلسال الأزمات الدبلوماسية

وقبل نحو عام من الآن ظن كثيرون أن جبل الجليد المتعاظم بين البلدين في طريقه إلى الذوبان، عندما شارك المغرب في الدورة الـ14 لاجتماعات وزراء خارجية الحوار (5+5) التي انطلقت في الجزائر، يناير الماضي.

لاقت المشاركة حينها اهتماما واسعا في الأوساط الإعلامية والسياسية خاصة بعد ظهور وزير الخارجية المغربي “ناصر بوريطة” ممسكا بيد نظيره الجزائري “عبد القادر مساهل” وهما يهمان بالدخول إلى مركز المؤتمر الدولي الذي يحتضن الاجتماعات.

وتعتبر زيارة بوريطة تلك للجزائر الأولى من نوعها، بصفته وزيراً للشؤون الخارجية والتعاون المغربي، بعدما زارها في وقت سابق كوزير مفوض للشؤون الخارجية، وحظيت بالاهتمام لأنها جاءت بعد يومين من اتهام “أويحيى” المغرب بإغراق بلده بالحشيش والكوكايين.

“أويحيى” قال في تصريح له إن المغرب متورط في “تهريب ​المخدرات​ وخصوصا الحشيش” إلى بلاده، مشيرا إلى أن “كميات كبيرة من جذور القنب تُضبط أسبوعيا قادمة من المغرب”.

وفي أواخر نوفمبر 2017 الماضي تداولت مواقع إلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع مقطع فيديو يُظهر، العاهل المغربي الملك محمد السادس وأويحيى، وهما يتصافحان، حيث يبدو “أويحيى” مبادرًا بمصافحة العاهل المغربي.

المصافحة كانت أول لقاء – إن جاز التعبير – بين مسؤولين من البلدين بعد حوالي شهر ونصف من أزمة دبلوماسية انفجرت على خلفية تصريحات وزير الخارجية الجزائري، عبد القادر مساهل، التي اتهم فيها المغرب بـ”تبييض أموال المخدرات في البنوك الأفريقية”.

وردت الرباط باستدعاء القائم بالأعمال في سفارة الجزائر بالمغرب احتجاجًا على التصريحات، وأدانت الخارجية المغربية التصريحات ووصفتها بأنها “تنم عن مستوى غير مسبوق من عدم المسؤولية في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين”.

وفي أغسطس 2017، أكد “بوريطة”، أن العلاقات بين بلاده والجزائر دخلت “نفقًا مسدودًا على جميع المستويات”، وأوضح في تصريحات صحفية أن “العلاقات مع الجزائر لا تعرف أي تطور”، مؤكدًا أنه لم تكن هناك أية زيارة ثنائية بين البلدين منذ أكثر من 7 سنوات.

وكان للأزمة السورية انعكاس سلبي على العلاقات المتوترة، حين أعلنت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية “رفضها القاطع” لما أثارته السلطات المغربية، بتسهيل الجزائر دخول سوريين إلى أراضيها بطريقة غير شرعية، وكانت السلطات المغربية اتهمت، قوات الأمن الجزائرية، بترحيل قسري لأفواج مهاجرين سوريين تجاه الأراضي المغربية.

شبح الحرب يخيم

ولعل تلك الأزمات الدبلوماسية، ليست سوى انعكاسات بسيطة لخلافات أعمق وأكثر حدة وصلت إلى التهديد بشن حرب بين البلدين.

ففي أبريل الماضي سلم الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة “عمر هلال” إلى رئيس مجلس الأمن الدولي “جوستافو ميازا كوادرا” رسالة تحذر من أن “إقامة أي بنية مدنية أو عسكرية أو إدارية -أو أيا كانت طبيعتها، للبوليساريو (جبهة تدعمها الجزائر وتتهمها المغرب باحتلال أراضيها)، من مخيمات تندوف في الجزائر إلى شرق الجدار الأمني الدفاعي للصحراء- تشكل عملًا مؤديًا إلى الحرب”.

وأوضح هلال أن “انتهاكات البوليساريو المتكررة -التي تمتد الآن إلى عدة مناطق شرق الجدار الأمني الدفاعي في الصحراء- تهدد الأطراف الأخرى بشكل جدي، ولا تعطي أي فرصة لإعادة إطلاق العملية السياسية”.

قبلها بيوم واحد أكد رئيس الحكومة المغربية “سعد الدين العثماني” أن بلاده “لم ولن تسمح بتغيير المعطيات على أرض الواقع بالمنطقة العازلة (في الصحراء الغربية) خاصة ما يتعلق بتشييد بعض البنايات”.

واعتبر، في تصريحات صحفية، أن أي تغيير للمعطيات في المنطقة الذكورة بمثابة اعتداء على المغرب وسيادته الوطنية، معلنا تشجيع حزبه الحاكم (العدالة والتنمية) السلطات الرسمية “لتقوم بكل ما يلزم لإزالة هذا الاعتداء”.

وكان وزير الخارجية المغربي “ناصر بوريطة” قال إن “هناك استفزازات ومناورات.. الجزائر تشجع البوليساريو على تغيير وضع هذه المنطقة العازلة التي وضعت منذ أوائل التسعينيات تحت مسؤولية الأمم المتحدة”.

وأضاف: “إذا لم تكن الأمم المتحدة مستعدة لوضع حد لهذه الاستفزازات، فإن المغرب سيتحمل مسؤولياته ولن يتسامح مع أي تغيير يمكن أن يحدث بهذه المنطقة”، مؤكدا أنه إذا لم تكن للأمم المتحدة ومجلس الأمن قدرة على حماية المنطقة “فإن المغرب سيتحمل مسؤوليته”.

تاريخ الصراع ومنبع الخلاف

وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن أزمة الصحراء ودورها في تأجيج الخلافات بين البلدين ليست وليدة اللحظة، بل تمتد إلى عقود مضت وتحديدا في 15 يوليو 1972، عندما وُقعت اتفاقية تقسيم الحدود بين الرئيس الجزائري هواري بومدين والملك المغربي آنذاك الحسن الثاني.

وبعد إعلان تكوين جبهة تحرير وادي الذهب والساقية الحمراء المعروفة باسم “البوليساريو”، التي تدعو إلى استقلال منطقة الصحراء المغربية بالجنوب عام 1973، كدولة مستقلة، قامت الجزائر بدعم الجبهة عسكريًا ولوجستيًا في قتالها مع القوات المغربية في نهاية السبعينيات.

أزمة المنطقة الحقيقية بدأت قبل انسحاب الاحتلال الإسباني للمنطقة في أكتوبر1975 حيث طالبت المغرب باسترجاع الصحراء الغربية قبل انسحاب الاحتلال منها، معتبرة أن الصحراء الغربية جزء من أراضيها.

طلبت المغرب إحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية للبت فيها، وقد أقرت محكمة العدل الدولية في 16 أكتوبر 1975بوجود روابط تاريخية وقانونية تشهد بولاء عدد من القبائل الصحراوية لحاكم المغرب، وكذلك بعض الروابط التي تتضمن بعض الحقوق المتعلقة بالأرض الواقعة بين موريتانيا والقبائل الصحراوية الأخرى.

إلا أن المحكمة أقرت كذلك أنه لا توجد أي روابط تدل على السيادة الإقليمية بين الإقليم وبين المغرب أو موريتانيا وقت الاحتلال الإسباني، وأن الروابط المذكورة سلفًا لا تكفي بأي حال من الأحوال بمطالبة أي من الدولتين بضم الصحراء الغربية إلى أراضيها.

فقضت المحكمة الدولية بأن السكان الأصليين أهل الصحراء هم مالكو الأرض، وبالتالي فإنهم يتمتعون بحق تقرير المصير، غير أنه وبعد ساعات من صدور حكم المحكمة أعلن ملك المغرب حينها الحسن الثاني عن تنظيم “مسيرة خضراء” لإعادة الصحراء الغربية إلى الوطن الأم.

بعدها بأيام بدأت اتصالات دبلوماسية مكثفة بين المغرب وإسبانيا للوصول إلى حل، لينتهي الأمر في يوم 14 نوفمبر 1975 بتوقيعهما وموريتانيا اتفاقية في مدريد استعاد المغرب بمقتضاها أقاليمه الجنوبية والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي أغسطس 1979، تخلت موريتانيا عن جميع مطالبها بشأن نصيبها من الصحراء الغربية وتنازلت عن هذه المنطقة إلى البوليساريو، ولكن المغرب سيطرت عليها.

بطبيعة الحال رفضت جبهة البوليساريو الاتفاقية، وطالبت باحترام قرار محكمة العدل الدولية بشأن حق تقرير المصير وإجراء استفتاء شعبي.

ومنذ هذا التاريخ شهدت المنطقة نزاعات مسلحة بين الطرفين، وبعد أن هزم الجيش المغربي، قوات البوليساريو بعد عناء، في عام 1980 اتجه إلى بناء جدار أمني استمر تشييده نحو 7 سنوات، يمتد على طول الحدود الجنوبية بين البلدين الجارين.

استمرت الاشتباكات حتى عام 1991، حيث أشرفت بعثة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة على إلزام الطرفين بوقف إطلاق النار، وكانت السنوات التالية شاهدة على أحداث دامية بين شباب جبهة البوليساريو والحكومة المغربية متمثلة في أحداث العيون عام 1999 وأحداث السمارة 2005 وأحداث كديم ازيك عام 2010.

وفي أبريل 2007 قدمت المغرب للأمم المتحدة اقتراحًا بشـأن نظـام للحكـم الذاتـي للجبهـة، وظلت المشاورات قائمة منذ هذا التاريخ دون حسم بين زيارات لمبعوثين من الأمم المتحدة واجتماعات لمجلس الأمن.

وفي نوفمبر 2014 شدد الملك محمد السادس، في الذكرى الـ 39 لإحياء انطلاق المسيرة الخضراء، على أحقية المغرب التاريخية فى الصحراء الغربية.

تاريخيًا، فإن جذور الأزمة بين البلدين تمتد إلى عهد الاستعمار الفرنسي، حيث لم يكن هناك رسم للحدود بشكل دقيق وكامل بين البلدين المتجاورين، ولم تكن فرنسا معنية بذلك إلا بعد اكتشاف حقول من النفط ومناجم حديد في المنطقة الحدودية، حيث أعادت ترسيم الحدود وأدخلت منطقتي “الحاسي والبيض” و”كولومب بشار” ضمن المقاطعة الفرنسية للجزائر، حينها.

بعد استقلال الجزائر عام 1962 ومن قبله المغرب عام 1956، طالبت الرباط باسترجاع سيادتها على المنطقتين، بالإضافة إلى مناطق أخرى كانت تعود إليها قبل الاستعمار، استنادًا إلى خريطة المغرب الكبير التي نشرها حزب الاستقلال المغربي في عام 1956.

إلا أن الجزائر رفضت الطلب، ودعت إلى عدم المساس بالحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي بالاستناد إلى مؤتمر باندونج المنعقد في 1956.

وازداد التصعيد بالمناطق الحدودية بين البلدين في أعقاب رفض الجزائر تغيير خريطة الاستعمار، إلى أن اندلعت مناوشات تحولت إلى حرب ضروس في أكتوبر 1963، سميت بحرب الرمال.

تكبد الطرفان خسائر مادية وبشرية كبيرة، لتنتهي هذه الحرب بتدخل منظمة الوحدة الأفريقية، التي أرست اتفاق وقف إطلاق النار بينهما في 20 فبراير 1964.