أحمد حسين

بقدر ما أثار قرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن تنظيم سفر كبار المسؤولين للخارج من حالة من الغموض والالتباس حول الهدف الحقيقي منه، يبدو أن هناك ثمة اتفاق على أن شيخ الأزهر أحمد الطيب هو المعني الأول بهذا القرار.

السيسي ربط في قراره الذي نشرته الجريدة الرسمية في عددها الصادر 14 يناير الجاري تحت رقم 23 لسنة 2019، سفر كبار المسؤولين في مهام رسمية بالخارج بالحصول على تصريح سفر من الرئيس شخصيا.

فما الذي دفع إلى القول بأن شيخ الأزهر معني بالقرار، وهل يجدد الأمر صراعا مشتعلا بين السيسي والطيب؟.

سر قرار السادات!

نص قرار السيسي في مادته الأولى على أنه ‘يكون الترخيص بالسفر للخارج في مهام رسمية أو لأعمال تتعلق بالوظيفة بقرار من الرئيس لكل من رئيس الوزراء ونواب رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل ورؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية والأمنية ونوابهم، ويسري حكم الفقرة السابقة على كل من يشغل وظيفة أو يعين في منصب بدرجة رئيس مجلس وزراء أو نائب رئيس مجلس وزراء”.

القرار الرئاسي نص أيضا على أن يرخص رئيس الوزراء بالسفر للخارج في مهام رسمية أو لأعمال تتعلق بالوظيفة لمسؤولين آخرين هم “الوزراء من غير المذكورين بالمادة الأولي ونواب الوزراء والمحافظين ونواب المحافظين ورؤساء المجالس القومية والهيئات العامة والشركات القابضة والأجهزة التي لها موازنات خاصة”.

اللافت أن قرار السيسي يشير في ديباجته إلى قرار رئيس الجمهورية رقم 140 لسنة 1972 بشأن الترخيص بسفر كبار العاملين بالدولة والقطاع العام والذي أصدره الرئيس الراحل أنور السادات.

قرار السادات نص في مادته الأولى على “يكون الترخيص بسفر الوزراء ونواب الوزراء في مهام رسمية إلى الخارج بقرار من رئيس الجمهورية وذلك في حالات الضرورة القصوى وبعد موافقة رئيس مجلس الوزراء”.

       

باقي مواد قرار السادات لم تُشر إلى رئيس الجمهورية في ترخيص سفر باقي المسؤولين لكنها تركتها بيد رئيس الوزراء.

المثير ليس توسيع اختصاص رئيس الجمهورية في القرار الجديد للسيسي بأن يشمل رئيس الوزراء ذاته، والذي تمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية في قرار السادات، لكن في اشتمال قرار السيسي على فقرة في غاية الأهمية.

الفقرة الملحقة بالمادة الأولى تنص على أنه “ويسري حكم الفقرة السابقة على كل من يشغل وظيفة أو يعين في منصب بدرجة رئيس مجلس وزراء أو نائب رئيس مجلس وزراء”.

من هنا كان الحديث بأن قرار السيسي قصد بالدرجة الأولى شيخ الأزهر، فهو يشغل منصبا بدرجة رئيس مجلس وزراء، لكن ربما كان غير لائق أن ينص القرار على تسمية منصب الإمام الأكبر، فجاء على النحو المذكور.

“بعبع” القيادة الدينية

في سياق ذي صلة، ربما تكون الرحلات الخارجية لشيخ الأزهر أكثر من أن تحصى، خاصة على مدار السنوات القليلة الماضية منذ تولي السيسي مقاليد البلاد.

هذه الرحلات التي كان يُستقبل فيها الطيب استقبال الرؤساء نظرا لمكانته الدينية في أرجاء العالم الإسلامي، صنعت منه قائدا روحيا ربما على نحو ضايق السيسي الطامح دوما لأن يكون الزعيم الوحيد والقائد الأوحد ولا أحد غيره في الصورة.

                                                                                                     (الرئيس الإندونيسي يستقبل شيخ الأزهر بحفاوة بالغة)

 

هذه الصورة النمطية التي تترسخ في الأذهان عن شيخ الأزهر وما وصل إليه من مكانة تضاهي السيسي في الجولات الخارجية، ربما دفعت الأخير إلى تقييدها والحد منها بقرار سفر المسؤولين.

إلى جانب الجولات الخارجية المكوكية، فإن إدلاء الطيب برأي يخالف السيسي في المسائل ذات البعد السياسي، ربما أضافت سببا آخر دفع الرئيس إلى تحجيم شيخ الأزهر بهذه الطريقة.

في ديسمبر 2017، شكّل بيان هيئة كبار العلماء بقيادة شيخ الأزهر بشأن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي، مثالا حيّا على الأمر.

البيان جاء كتطور لافت في موقف المؤسسة الدينية الأكبر في مصر والرائدة في العالمين العربي والإسلامي، وعلا بمراحل على الموقف الرسمي في مصر المكتفي بعبارات الرفض والشجب والإدانة والاستنكار.

كما وضع شيخ الأزهر بموقف لا يُحسد عليه، في مواجهة بشكل أو بآخر مباشرة أو غير مباشرة مع السيسي، حيث باتت “القيادة الدينية” في مواجهة مع القيادة السياسية التي لا تزال في موقفها حبيسة حسابات علاقاتها الوثيقة مع طرف الأزمة الآخر أمريكا وإسرائيل، الأمر الذي ضاعف الحرج الشعبي للسيسي.

صراعات موثّقة

ولعل الربط بين قرار السيسي وشيخ الأزهر ليس وليد اللحظة، بل يمتد إلى جولات سابقة من الصراعات والخلافات الموثقة بين الرجلين، والتي كان آخرها على الهواء مباشرة خلال احتفالات المولد النبوي الشريف في نوفمبر الماضي.

شيخ الأزهر هاجم في كلمته بالحفل ما وصفها بـ”الصيحات التي دأبت على التشكيك في قيمة السنة النبوية وفي ثبوتها وحجيتها والطعن في رواتها”، كما هاجم الدعوات “المطالبة باستبعاد السنة جملة وتفصيلا من دائرة التشريع والأحكام والاعتماد على القرآن الكريم فحسب”.

واختتم شيخ الأزهر كلمته بقوله: “أتساءل تساؤل تعجب ودهشة بالغة، من أنبأ هذا النبي الكريم بأن ناسا ممن ينتسبون إليه سيخرجون بعد أكثر من 13 قرنا من الزمان، ينادون باستبعاد سنته والاكتفاء عنها بالقرآن ليحذرنا من صنيعهم قبل أن يخلقوا بقرون عدة، وذلك في حديث صحيح “يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه”.

                                                                                               (خلاف السيسي والطيب خرج إلى العلن مرات عدة)

خطاب الطيب أثار حفيظة السيسي الذي أنهى كلمته المكتوبة، ثم اشتبك مع ما ذكره الطيب بشكل مباشر، مؤكدا أن خطاب شيخ الأزهر دفعه للحديث خارج السياق قليلا، مضيفا: “أرجو ألا يفهم أحد كلامي على أنه إساءة إلى أي أحد”.

وتابع السيسي في كلمته الارتجالية: “الإشكالية في عالمنا الإسلامي حاليا ليست في اتباع السنة النبوية من عدمها، فهذه أقوال بعض الناس، لكن المشكلة هي القراءة الخاطئة لأصول ديننا، وهذه المرة الرابعة أو الخامسة التي أتحدث فيها معكم، كإنسان مسلم وليس كحاكم”.

وتساءل السيسي: “من أساء إلى الإسلام أكثر: الدعوة إلى ترك السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن فقط، أم الفهم الخاطئ والتطرف الشديد؟ ما هي سمعة المسلمين في العالم الآن؟”.

ولم يترك السيسي، منذ توليه السلطة (2014) أي مناسبة إلا وتحدث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، محملا علماء الأزهر المسؤولية لمواجهة التطرف والطائفية.

ومطلع يناير 2015، دعا خلال كلمة بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، إلى ثورة دينية للتخلص من “نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين، تعادي الدنيا كلها”.

وتابع موجها حديثه لعلماء الأزهر: “هذا الكلام أقوله هنا في الأزهر أمام علماء ورجال الدين، والله لأحاججكم أمام الله على ما أقوله حاليا، نحتاج إلى التدقيق بشدة، نحتاج إلى ثورة دينية”.

ونالت دعوة السيسي ترحيبا كبيرا من قبل نخب ثقافية وإعلامية، التي هاجمت الأزهر وخريجيه واتهمتهم بالتطرف والمغالاة، إلا أن الأزهر تصدى لها في أكثر من مناسبة بتأكيده على ثوابت التراث الإسلامي، ورفضه المساس بها، وخرج شيخ الأزهر منحازا لهذا الموقف، والذي لم يسلمه من الهجوم أيضا.

تعبتني يا فضيلة الإمام!

وفي 24 يناير 2017، خاطب السيسي شيخ الأزهر بشكل ساخر على الهواء مباشرة، بقوله: “تعبتني يا فضيلة الإمام”، وذلك على خلفية رفض الأزهر رسميا مقترحات السيسي بعدم الاعتراف بالطلاق الشفوي، وهي الدعوة التي قال السيسي إنها تهدف إلى الحد من ظاهرة الطلاق المنتشرة في مصر.

إثر هذه “المداعبة” كما وصفتها وسائل الإعلام، انطلقت حملة إعلامية ضد الأزهر، ركز بعضها على شخص أحمد الطيب، فيما تحدث آخرون عن مناهج الأزهر ووصفوها بـ”المتطرفة”، وانتقد البعض الآخر “تخاذل الأزهر” في مواجهة الإرهاب.

وعقب اقتراح السيسي، قال الأزهر إن هيئة كبار العلماء فيه ستعكف على دراسة الأمر من الناحية الشرعية، وخلصت الهيئة في بيان، حينها، إلى صحة “وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، من دون اشتراط إشهاد أو توثيق”.

وفيما بدا أنه مخالفة لرأي السيسي المُعلن في تلك القضية، قالت الهيئة في بيانها، إن “العلاج الصحيح لهذه الظاهرة يكون في رعاية الشباب وحمايتهم من المخدرات بكل أنواعها، وتثقيفهم عن طريق أجهزة الإعلام المختلفة”.

وفي أبريل من العام نفسه، تقدم النائب المثير للجدل محمد أبو حامد بمشروع قانون إلى مجلس النواب، مدعوما بتأييد نحو مئتي نائب، تضن تعديلات جوهرية على قانون الأزهر.

                                                                                                        (هل يختلف الرجلان فعلا أم أنها دعاية إعلامية؟) 

وبالطبع كانت أبرز هذه التعديلات تتعلق بتحديد مدة ولاية شيخ الأزهر وطريقة اختياره، وضم غير الأزهريين إلى هيئة كبار العلماء -أعلى سلطة في الأزهر- وفصل جامعة الأزهر عن المشيخة، وفصل المعاهد الأزهرية عن المشيخة وإلحاقها بجامعة الأزهر.

وأثار القانون ضجة كبيرة وجدلا واسعا، باعتباره “هدما” للأزهر وليس تطويرا له، وهو ما دفع السلطات إلى تجميد القانون، وقال علي عبد العال رئيس البرلمان إن قانون الأزهر “صفحة وطويت”، إلا أن النائب محمد أبو حامد -عضو الأغلبية المقرب من الأجهزة الأمنية- يعيد طرح القانون بين الحين والآخر، ويؤكد أنه سيطرح التعديلات خلال دورة الانعقاد الحالية.

ورغم مشاركة الطيب، في مشهد 3 يوليو 2013، برفقة 14 شخصية، حينما وقف وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، يتلو بيان عزل أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في البلاد، محمد مرسي، من منصبه إلا أنه لم يوافق على فض اعتصام رابعة بالقوة.

                                                                                (مشاركة الطيب في عزل مرسي لم تمنعه من إدانة فض اعتصام رابعة)

ويوم فض اعتصام رابعة العدوية، قبل خمس سنوات، وعلى النقيض من كافة مؤسسات الدولة، استنكر “الطيب” فض الاعتصام، داعيا جميع الأطراف لضبط النفس وحرمة الدماء.

وأعلن الطيب، في بيان متلفز، أنه لم يكن يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا من خلال وسائل الإعلام صباح اليوم نفسه، مطالبا الجميع بعدم إقحام الأزهر في الصراع السياسي.

وعبر عن أسفه وحزنه إزاء وقوع عدد من الضحايا وترحم عليهم وعزّى أسرهم، مؤكدا أن استخدام العنف لا يكون أبدا بديلا عن الحلول السلمية.

بعد هذا البيان، توجه الطيب إلى مسقط رأسه في مدينة القرنة بالأقصر (جنوب)، ووقتها قال البعض إن شيخ الأزهر آثر أن يدخل في “خلوة” بعيدا عن القاهرة بعد فض الاعتصام.