العدسة – ياسين وجدي:

كانت الهوية ولازالت القلب النابض لأي أمة، حيث شكلت ميادين ثورات الربيع العربي نماذج وحدة واتفاق ملهم على الهوية وتناغم حولها، ولكن بعد الانتصارات الأولى للثورات نشبت صراعات مفتعلة تطورت بدعم من الفلول ، تصدرتها “الأنا” الخاصة على حساب مطالب التوافق الثورية.

نرصد بعد مرور 8 سنوات على انطلاق الربيع العربي في مهده ، توابع صراعات الهوية في بلدان الغضبة الأولى ، والتي يبدو أنها تحتاج إلى دق جميع نواقيس الخطر إذا كان البعض يريد استكمال الموجات الأولى للربيع.

أزمة خطيرة !

برزت الهوية والصراع عليها كأزمة واضحة المعالم والخطورة إبان انطلاق ثورات الربيع العربي ، بحسب خبراء ومراقبين، وكان أبرز الخاسرين هم أبناء الربيع العربي ذاتهم.

واتضحت الأزمة بحسب مراقبين جلية في سوريا ومصر واليمن والبحرين وليبيا ، ففي الثورة السورية، صنف الحكم العلوي على أنه حكم كافر في بداية الثورة، ثم ظهر الجيش الحر الذي اتخذ في معظمه منهجا علمانيا بالتزامن مع صعود إسلامية معتدلة أو متطرفة، مع قوميات متعددة ، لتصبح الأراضي السورية عبارة عن كانتونات متناحرة.

نفس الأزمة تكررت في مصر بطريقة أخرى بين الإسلاميين والعلمانيين ، واستغلتها الثورة المضادة لاختراق ثورة 25 يناير بدءا من التصويت على التعديلات الدستورية في مارس 2011 ، ولم تكن اليمن بعيدة في ظل وجود اختلافات هوية واضحة ومستمرة تجسدت منذ البدء في تصارع بين الإخوان والحوثيين والسلفيين والعلمانيين والماركسيين الانفصاليين.

وهو ما حدث في البحرين كذلك فقد انحازت القوى السنية إلى النظام الحاكم بمجرد رفع لافتات الشيعة بكثافة في الحراك، بل انتقد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس اتحاد علماء المسلمين السابق بشدة الحركة المعارضة في البحرين، واتهمها بأنها ثورة طائفية شيعية موجهة ضد السنّة، واعتبر أنها بذلك تختلف عن الحركات الاحتجاجية في مصر وتونس وليبيا ومصر وفق رأيه.

كما حضرت أزمة الهوية الليبية في المشهد العام الليبي – كما يقول الباحث جاكوب ويتشمان– بسقوط نظام معمر القذافي وانتشار الميليشيات، حيث دفعت الأزمة الليبيين الذين شاركوا في الثورة  إلى”الصراع من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب وأصبحت العملية الديمقراطية تسير جنبا إلى جنب مع العنف”.

إجهاض التوافق !

وأجهضت ورقة الهوية كثيرا من التوافق حول الدساتير في بلدان الربيع العربي التي عرفت مراحل انتقالية مما بعد أضر بتأسيس الدولة الوطنية بعد الثورات وأعطى الفرصة للفلول .

وبحسب مراقبين كان للسياق التاريخي دوره الحاسم في بصم دساتير الربيع العربي بطابع النصوص الموزعة بين هاجسي الهوية والمواطَنة.

هذا الهاجس جعل من مطلبي إعادة بناء الهوية “الوطنية”، والتأسيس الدستوري للمواطنة، محورين مهيكلين للحوار العمومي الواسع الذي شهدته بلدان الربيع، في المرحلة ما بعد انطلاقات 2011 ، تميزت الخطابات حولهما بالتضخم ، وساهما كثيرا في “استقطابات” حادة بين الفاعلين السياسيين ما عقد مسار الدسترة في المرحلة الانتقالية وكان سببا بارزا في التوتر واختراق الربيع العربي من أنصار الأنظمة الديكتاتورية السابقة على الثورات.

 

ففي مصر ، كانت الضربة الأولى للتوافق الثوري على المنتج الدستوري في مارس 2013 ، تطورت وصولا إلى الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 والذي كان كاشفا لمقدار أزمة الهوية  ، التي استغلها قائد الانقلاب العسكري الجنرال عبد الفتاح السيسي بمساعدة الدولة العميقة ذريعة للإطاحة برئيسه الدكتور محمد مرسي ، وكانت الحملة ممنهجة تحت اتهامات متكررة بمحاولة تغيير هوية مصر ، ولكن تلاحقت الأزمة بوضع دستور ثان للبلاد تجرى عليه محاولات لتعديله في الفترات الأخيرة.

وفي ليبيا ، ربط كثيرون بين عرقلة الاستفتاء على الدستور في البلاد وبين أزمة الهوية بسبب عدم التوافق النهائي بين مجلسي النواب والأعلى للدولة  بسبب بعض المواد في الإعلان الدستوري، وهو ما أشار إليه رئيس حزب العدالة والبناء الليبي محمد صوان مؤكدا أن هناك أطرافا إقليمية متدخلة في ليبيا تعرقل بناء الدستور.

وبحسب تعبير الدبلوماسي الليبي عبد الرحمن شلقم فإن “الهوية” الليبية هي “اللغم المسكوت عليه ، رغم وجود مسودات دستورية تتحدث بوضوح عن أن “الاعتزاز بمختلف مكونات ليبيا الاجتماعية والثقافية واللغوية هي المشكّلة للهوية الليبية”.

لازالت ورقة للتلاعب!

وكان أبرز الرابحين من الصراع على الهوية فلول الثورة المضادة بحسب المراقبين .

وفي تونس لازالت الهوية ورقة تلاعب في أيدي قوى إقليمية في مقدمتها الإمارات ، تريد إجهاض حراك الربيع العربي في مهده ، حيث تضخمت ورقة الهوية للضغط بين الأطراف المتصارعة في المشهد السياسي .

وبرز ذلك المشهد في 11 أغسطس الماضي عندما شهدت العاصمة التونسية مسيرات مناهضة لتقرير لجنة “الحريات الفردية والمساواة” الذي يقترح المساواة بين الجنسين في الإرث وأمور أخرى تثير حفيظة الإسلاميين، والذي تم إقراره في وقت لاحق لتظهر أزمة الهوية بصورة تضر مشهد الربيع العربي في تونس.

تفاصيل المؤامرة ، رصدتها حركة النهضة مبكرا ، واعتبر نائب الحركة في البرلمان ، ناجي الجمل،”، أن رئيس البلاد  أعاد تونس إلى مربّع صراع الهويّة وكأن مشاكل تونس الاقتصادية والتنموية قد حُلَّت، مشيرا إلى أن النهضة كانت الأولى في نتائج الانتخابات سنة 2011 وهي الأولى أيضا بعد التصدعات التي حدثت سنة 2015، لكنها لم تشأ الاقتراب من مجلة الأحوال الشخصية التي تؤسس لجملة من الحقوق التي تتمتع بها المرأة التونسية، رغم تحفظاتها على بعض المضامين.

ورغم أن تونس شهدت بحسب مراقبين بعد ثورة 14 يناير 2011 فائضاً من التحركات الاحتجاجية التي خرجت بهدف ما تقول إنه الدفاع عن هوية الشعب التونسي العربي المسلم، إلا أنه حتى الآن لم تساعد الثورات المضادة على تكرار نموذج مصر في التلاعب بورقة الهوية.

ما الحل ؟!

ورغم صعوبة المشهد ، إلا أنها هناك عديد من الدراسات رسمت عدد من الحلول وحذرت من بعض المشاهد، وفي مقدمة الحلول صناعة نخب حاكمة مدربة وواعية لإجهاض صراع الهوية على المستوى البعيد .

وأرجعت دراسة حديثة بعنوان”أزمة الدول العربية وصراعات الهوية: مرحلة ما بعد الربيع العربي” ،تصاعد صراعات الهوية إلى فشل النخب الحاكمة في العديد من الحالات في بناء دولة وطنية تتمتع بالفاعلية والشرعية، بحيث تكون قادرة على القيام بوظائفها الرئيسية بفعالية وكفاءة من ناحية، واستيعاب التعددية المجتمعية (الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية) في إطار هوية وطنية جامعة تجسدها الدولة، من ناحية أخرى.

استعادة مفهوم الدولة المدنية الحقيقية والتوقف عن استخدام ورقة الهوية في المناكفات السياسية كان أبرز ما قدمته دراسة ميدانية حديثة  صادرة عن معهد دراسات الشرق الأوسط استندت على نتائج استطلاعات الرأي 1201 تونسي و4080 مصري وعدد من الليبيين لم يتم حصرهم بعد ، مؤكدة أن صراع الهوية عصف كثيرا بأحلام الربيع العربي.

الدراسة أكدت أن الأزمة السياسية في مصر والانقسام حول نظام السيسي جاءت في إطار الصراع على الهوية المستند للبعد الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانية، أما في ليبيا فقد عزز الصراع على الهوية التناحر القبلي وتحقيق مكاسب الفئوية.

وبحسب الدراسة فإنه من المهم كذلك التوقف عن التفزيع من الإسلاميين ، حيث أكدت الدراسة أن المشروع الإسلامي “ليس عقبة في تحقيق الديموقراطية رغم الصعوبات الاقتصادية والانتقادات” التي قالت إنها اعتمدت على معطيات ومطالب غير واقعية، وبينت الدراسة أن الشعوب الثلاثة تتبنى اتجاهات دينية معتدلة بالنسبة لدور الدين في الحياة السياسية.

تدشين الحوار هو الحل الرابع بحسب دراسة ثالثة وصفت الصراع على الهوية ، بأنه الخطر الأكبر الذي يُهدد بقاء الدول العربية واستمراريتها، كما يُعيق من عملية تقدمها ونهوضها، خاصة في السنوات الأخيرة ما بعد ثورات الربيع العربي.

واستندت الدراسة التي صدرت عن أطروحة جامعية إلى دراسة الحالة الليبية في الفترة الفاصلة بين (2010 – 2015 مؤكدة أن أزمة الهوية في العالم تحتاج إلى للحوار وتغليب المصلحة العليا للدولة على غيرها من المصالح الجزئية  كمقدمة لوضع التصورات نحو علاج هذه الأزمة بما يضمن اندماج الجميع تحت هوية مركزية تعمل على تلبية تطلعات الجميع ودون انتقاص لحقوق طرف على آخر.