العدسة : محمد العربي

ضربات مختلفة هذه المرة من إسرائيل في العمق السوري ، صاحبتها بروباجندا إعلامية متبادلة بين طهران و”تل أبيب” ، تحمل في طياتها رسائل متنوعة وعميقة قد تؤثر على المشهد السوري وخرائط التسوية المتناثرة في عواصم عدة.

اللافتة المرفوعة في التصعيد هي إيران ، ولكن المقصود بشكل جذري هو مستقبل سوريا الذي تحاول طهران عدم التفريط فيه بينما تمضي إسرائيل بحسم نحو رسم خريطته بمواصفاتها هي وحدها!

ضربة مختلفة !

الطائرات الحربية الإسرائيلية أعادت الصدام العسكري في سوريا قبل أيام للواجهة ، وشنت غاراتها في محيط دمشق، وكانت الرسالة الأخطر والمستفزة هذه المرة بخلاف المرات السابقة أن تلك الغارات استهدفت تجمعات للجنود السوريين والأهم لعناصر من الحرس الثوري الإيراني.

ووفق مراقبين فإنه في السابق كانت الغارات الإسرائيلية تحاذر قدر الإمكان سقوط عناصر إيرانيين، وكانت تعمل على إصابة مخازن الصواريخ ومن بعدها استثمار “أصداء” الغارة في اللعبة السياسية الداخلية، وكانت متفقة مع ​روسيا​ على أنّ ضربها للمخازن يتقاطع مع التفاهم الذي تمّ سابقاً حول المصالح الامنية الإسرائيلية، لكنّ الغارة الأخيرة اختلفت جذرياً ما جعل روسيا تحمل تحذيراً ​سوريا​ ـ إيرانياً إلى إسرائيل بأنّ ما حصل يبدّل من قواعد اللعبة، وأنّ الاعتداء الاخير فتح الباب واسعاً أمام المواجهة العسكرية المباشرة”.

التهديد الذي صدر عن طهران وتلاه تهديد سوريا بضرب مطار إسرائيل على لسان مندوب سوريا في الأمم المتحدة ، كان يعزز التحذير الروسي وبخاصة أن قائد القوات الجوية الإيرانية عزيز نصير زادة، أعلن بشكل حاسم عن استعداد قوات بلاده لخوض المعركة مع إسرائيل وإزالتها من الوجود.

ليست هذه المرة الأولى بطبيعة الحال ، حيث بادرت  إسرائيل في تصعيد غير مسبوق وقتها عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني إلى استهداف سوريا بغارات جوية ردا على إطلاق صواريخ ضد مواقع تابعة له في الجولان المحتل، ولكن وزير الدفاع الإسرائيلي حينها أفيجدور ليبرمان أعلن بكل وضوح أن الجيش الإسرائيلي ضرب “كل البنى التحتية الإيرانية تقريبا في سوريا”!

وفيما يبدو كان التصريح للاستعراض المحلي ، حيث قصف الجيش الإسرائيلي يوم عيد الميلاد (25 ديسمبر 2018) هدفا جديدا في سوريا على الرغم من الحماية الجديدة المضادة للطائرات ، لتكون المرة الثانية التي تعمل فيها القوة الجوية الإسرائيلية في سوريا منذ نشر صواريخ S-300، إضافة إلى أحدث جيل من الرادارات ونظام التنسيق بوليانا D4M1.

المحلل العسكري اللبناني شارل أبي نادر، يستبعد حدوث مواجهة وشيكة بين الجانبين، لكن الجديد حسب قوله هو حديث إسرائيل بشكل أكثر جدية عن مواجهة إيران، وكذا في إظهارها الاستعداد للوصول أكثر إلى العمق السوري، والدليل استخدامها لترسانة من الصواريخ في ردها على الصاروخ الذي نسبته لإيران، وكذا في اعترافها بالعمليات العسكرية بعدما كانت تتكتم عليها، بينما يظهر الجديد لدى الجانب الآخر، خاصة السوري، في تطويره لآليات اعتراض الصواريخ الإسرائيلية.

مغزى الضربة !

القصف الإسرائيلي الأخير في سوريا حمل في طياته عدة أسباب وتفسيرات ، من أبرزها  ما ذهب إليه خبراء من أن الضربة الإسرائيلية جاءت من أجل إثارة “إس-300” ومعرفة قدرات المنظومة الصاروخية مبررين ذلك بأن سرقة الأسرار أمر مهم للجيش الإسرائيلي من أجل حماية نفسه منها بمعرفة مدى المنظومة.

ووفق القائد السابق للقوات الجوية الروسية، العقيد سيرجي خاتيلوف فإن إسرائيل “تثير”إس-300” لإطلاق صاروخ في محاولة لسرقة أسرار أنظمة الصواريخ الروسية، ومع ذلك، فإن مثل هذه الأهداف مثل القنابل الموجهة ليست من الأهداف التي ستوجب على “إس-300” تدميرها، حيث تقوم “بانتسير” و”بوك” بهذا العمل بشكل جيد موضحا أن “بانتسير” تستخدم لضرب الأهداف الصغيرة الحجم والطائرات بدون طيار والأهداف الأرضية، أما “إس-300” تستخدم من أجل ضرب أهداف على بعد 150 إلى 250 كيلومترا والطائرات والصواريخ المجنحة والأهداف الباليستية والرؤوس الحربية.

المأزق الداخلي أحد أسباب الضربات بحسب مراقبين، ويؤكد “جوني منير” في موقع “النشرة” اللبناني أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اختبر الساحة بعد القرار الأمريكي  بالانسحاب وتثبيت الخطوط الحمر بعد رحيل ​الجيش الأمريكي​، والأهم عرض عضلاته كوزير للدفاع خلال فترة ​الحملات الانتخابية​، وهذا ما يفسّر خرقه التقليد الإسرائيلي حيث يدأب على تبنّي الغارات رسمياً بهدف استثمار كامل الهامش المسموح به للتصعيد مع الحذر من خرق المحظور والانزلاق إلى مواجهة مباشرة لا يسعى إليها، خصوصاً بعدما اختبر قدرات الفريق الآخر، وبخلاف الصورة الظاهرة فإنّ نتنياهو محشور داخلياً وهنا مكمن الخطر.

وهو ما ذهب له في الضربات السابقة كذلك ، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة العميد الدكتور هشام جابر، حيث يصف ما يحدث إسرائيليا في الفترة الأخيرة بأنه ليس سوى محاولات يائسة إذاً للهروب من الواقع الإسرائيلي المأزوم سياسياً وعسكرياً وأن قادة العدو يسعون من خلالها للتغطية على فشلهم المتكرر في تغيير قواعد  الاشتباك وهو ما لن يكتب له النجاح.

وأكد العميد جابر أن “إسرائيل” فشلت في كل مخططاتها في سوريا واضطرت الى التخلي عن جميع أوراقها، فهي قد منعت من دخول الأجواء السورية بعد إسقاط الطائرة الروسية وفشلت في غزة، كما تصدعت حكومتها واستقال وزير حربها، ورئيس حكومتها ملاحق قضائيا، لذا من الطبيعي أن يحاول نتنياهو الهروب إلى الأمام وادعاء أنه يقصف مواقع لحزب الله وإيران.

وفي هذا السياق يرى السياسيون الإسرائيليون اليساريون أن الإعلان عن الضربات الإسرائيلية ضد مليشيا فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، يرتبط بالسياسات الداخلية والانتخابات المقبلة في إسرائيل المزمع عقدها في التاسع من شهر إبريل المقبل.

تسوية سورية بمطالب إسرائيلية !

وعلى هامش الضربة الإسرائيلية، يضيف البعض سببا آخر قد يعتبر ذا واجهة وهو وضع قدم إسرائيل في التسوية السورية المرتقبة حفاظا على كيانها المحاصر.

ويمكن اعتبار الضربة الأخيرة صدى لتوصيات “مركز أبحاث الأمن القومي” الإسرائيلي، في دراسة حديثة له حيث أكد أن أية تسوية في سوريا يجب أن تضمن عدم السماح لإيران والقوى الشيعية بالحفاظ على أي نفوذ سياسي وعسكري في سوريا، وشدد معدو الدراسة على أنه يتوجب على إسرائيل عدم الاكتفاء بالنشاطات السياسية والدبلوماسية في مواجهة الخطر الإيراني في سوريا، حاثين على عدم التردد في استخدام “القوة العسكرية بحكمة” من أجل ضمان إحباط المخطط الإيراني لإيجاد تواصل إقليمي من طهران إلى دمشق، مرورا ببغداد وانتهاء ببيروت.

وهو ذاته ما صرح به مؤخرا نائب مدير قسم أوراسيا بالخارجية الإسرائيلية، ألكس بن تسوي حيث أعرب عن أن بلاده تأمل بأن تؤخذ مصالحها بعين الاعتبار في التسوية السياسية بسوريا مؤكدا أن “أي تسوية لا تأخذ بعين الاعتبار مصالحنا، غير قابلة للحياة مشددا على ضرورة “ضمان الأمن في الحدود الشمالية” لإسرائيل.

في هذا الإطار المحلل الإسرائيلي يوشانان فيسر، يرى أن ما حدث في الأيام الماضية كان مؤشراً جديداً على تعديل إسرائيل استراتيجيتها إزاء إيران وسوريا موضحا أن الضربات لا علاقة لها بالانتخابات الإسرائيلية المقبلة، وإنما الحقائق على الأرض السورية هي التي دفعت إسرائيل إلى الكشف عن ذلك.

واستند في مقال بموقع “آروتز شيفا” العبري إلى تصريحات يسرائيل كاتس وزير الاستخبارات الإسرائيلي، التي قال فيها :” إن سياسة الحرب مع إيران في سوريا تغيرت، والدولة الإسرائيلية الآن دخلت في مواجهة مفتوحة مع إيران، وعندما نحتاج إلى التصعيد سنقوم بذلك، ولن تسمح إسرائيل باستمرار التخندق الإيراني في سوريا”.

وبحسب متابعين فإن الصحافة العبرية عامة تبرز قلق “إسرائيل” الواسع من الوضع في سوريا في هذه المرحلة؛ حيث لا تخفي تل أبيب قلقها من “انتشار النفوذ الإيراني” وتعاظم قوة حزب الله بفعل الأزمة السورية، وبالتالي تبحث عن موضع قدم في التسوية المقبلة بحيث يتم إجهاض هذا التواجد، وهو ما دفعها إلى الدفع بالإمارات للتواجد المبكر لإقرار التوازن المفقود.

السفير المصري محمد بدر الدين زايد من جانبه ينظر للتصعيد الإسرائيلي الجديد بأنه يأتي في إطار وضع قدم إسرائيل في قلب الحدث السوري ، حيث يخلط الأوراق ويصب النار على الزيت لتبدأ مرحلة المخاطر العالية حيث يرى أنه لا يمكن تصور هذا التواجد العسكرى الكثيف بين الأعداء والمتنافسين لفترة طويلة دون حدوث مخاطرات عالية وانفلات لمستويات العنف.