كثر الحديث في الآونة الأخيرة بشأن النفوذ التركي المتعاظم في أفريقيا، وخاصة بعد البلدان المؤثرة بحكم موقعها الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية.
وبطبيعة الحال كانت الصومال، التي مزقتها الحرب الأهلية، في صدارة تلك الدول، وفي مقدمة الوجهات التي تسعى أنقرة دوما للاضطلاع بأدوار كبرى فيها وترسيخ تواجدها.
هذا التواجد، ربما ليس عسكريا واقتصاديا وسياسيا فحسب، بل شكل النموذج الصومالي صورة حية لما يسمى القوة الناعمة، نجحت فيه تركيا بتثبيت تواجدها بالبلد الأفريقي الفقير عبر تلك القوة.
استراتيجية تركية
أحدث إرهاصات هذا الدور وضْع رئيس الوزراء الصومالي حسن علي خيري، حجر أساس مشروع تنفذه شركة تركية لبناء طريقين حيويين يربطان العاصمة مقديشو بمدينتي أفحوي وجوهر شمالي وجنوبي البلاد.
وحسب وكالة الأنباء الصومالية الرسمية (صونا)، وقعت الحكومة الفيدرالية اتفاقية مع شركة تركية (لم تذكر اسمها)، أواخر 2017 ، لبناء الطريقين اللذين سيربطان العاصمة بالمدينتين، بحضور وفد قطري من “صندوق قطر للتنمية”.
ويمول الصندوق، الذي يعد الذراع الحكومية القطرية المعنية بتقديم المساعدات الخارجية، المشروع بكلفة مالية تبلغ 200 مليون دولار أمريكي.
يعزز المشروع حركة نقل البضائع والأفراد نحو مقديشو؛ ما قد ينعش اقتصاد الصومال الذي يكافح للتعافي من أثار الحرب الأهلية.
أعادت تلك الاتفاقية إلى الأذهان افتتاح تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في الصومال ديسمبر 2017، للمساهمة في تدريب أكثر من 10 آلاف جندي صومالي، وإعادة بناء قوة وطنية مدربة جيدًا تمثل الشعب الصومالي.
تلك الخطوات المتعاقبة تعبر عن إدراك تركيا أهمية الصومال بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات، وباعتبارها ممرا مهما للطاقة في العالم من خلال خليج عدن ومضيق باب المندب، كما الحال في الخليج العربي.
إضافة إلى ذلك، فإن الثروات الكثيرة التي يمتلكها الصومال والمخزون النفطي، يجعلها تدخل بقوة ضمن سياسة عامة تنتهجها تركيا للتأثير على المستويين الإقليمي والدولي.
يكتسب مضيق باب المندب أهمية دولية كممر مائي دولي، تشقه ناقلات النفط في طريقها من منابع الجزيرة العربية وإيران إلى أوروبا وأمريكا الشمالية عبر قناة السويس.
ومما يعزز تلك الأهمية كونه الممر الرئيسي للصادرات النفطية الخليجية والمنتجات الواردة من دول شرقي آسيا، وكونه مفتاح الملاحة البحرية في البحر الأحمر، فضلاً عن أنه يربط بين خليج عدن والبحر الأحمر.
تعبر المضيق سنويًا 21 ألف قطعة بحرية، ويمر من خلاله نحو 30% من نفط العالم أي نحو 3.3 مليون برميل.
ولعل الإصرار التركي على التواجد القوي في تلك المنطقة الاستراتيجية، يقود إلى طبيعة الصراع على النفوذ هناك بين العديد من القوى الدولية والإقليمية.
القوة الناعمة
وكما كانت القوة الخشنة، متمثلة في القاعدة العسكرية وتوريد السلاح المنتج محليا ونفوذ اقتصادي متزايد، حاضرة في التواجد التركي بالبلد الأفريقي، لم تكن القوة الناعمة أقل تأثيرا ونفوذا.
“استطاعت تركيا حقًا أن تكسب قلوب وعقول الشعب الصومالي”، ربما تشير هذه الكلمات التي جاءت على لسان وزير الإعلام الصومالي عبد الرحمن عمر عثمان، في أواخر 2017، إلى تلك القوة الناعمة.
ولمزيد من التفصيل، فإن العام 2011 يعتبر نقطة الانطلاق التي أوصلت تركيا إلى الوضع الحالي، ففي أغسطس من هذا العام وصل رجب طيب أردوغان الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك إلى العاصمة الصومالية مقديشو في زيارة غير مسبوقة بهدف لفت أنظار المجتمع الدولي لحجم المجاعة التي تجتاح الصومال، على الرغم من الأوضاع الأمنية المتردية في البلاد، واعتبر أول زعيم غير أفريقي يزور الصومال من عقود.
الزيارة عززت الحملة الإنسانية والدبلوماسية الواسعة التي تقوم بها أنقرة للتصدي للجفاف في الصومال، وفي عام 2015 كرر أردوغان “الرئيس” زيارته للصومال، تحت إجراءات أمنية مشددة، ووعد بمزيد من الاستثمارات في البلاد.
وإلى جانب المساعدات الإنسانية غير المحدودة التي تقدمها هيئة الإغاثة التركية والهلال الأحمر التركي بشكل دائم للصوماليين، أقامت الحكومة التركية العديد من المشاريع الضخمة في البلاد من أجل تطوير العاصمة والمؤسسات الحكومية والخدمات العامة للسكان.
وعملت المنظمات الإنسانية التركية على بناء مخيمات للنازحين وملاجئ للأيتام ومراكز لتوزيع المساعدات الإنسانية، إلى جانب مشاريع تنموية ضخمة وبناء شوارع في العاصمة وبناء أكبر مستشفى في تاريخ الصومال يحتوي على كامل التجهيزات والمختبرات الطبية، كما تعمل تركيا على بناء مبنى جديد للبرلمان الصومالي، وفق تقارير إعلامية.
ومنذ عام 2011 تستقبل تركيا أكبر بعثة تعليمية صومالية في العالم، كما عملت الخطوط التركية على دعم مطار العاصمة وتسيير رحلات أسبوعية من وإلى مقديشو.
وهكذا راكمت تركيا أعمالها الإنسانية لزيادة قوتها الناعمة، وبالتالي الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، تزداد بمرور الوقت.
قطر في الصورة
قطر، الحليف التركي الجديد في منطقة الخليج العربي لم تكن بعيدة عن تلك الصورة، بل تشكل منذ سنوات وتحديدا في أعقاب الأزمة الخليجية صيف 2017، دورا مكملا ورديفا للدور التركي، ولعل الخبر الذي ورد في بداية التقرير والخاص بإنشاء طريقين جديدين يكشف بقوة هذا الدور، خاصة في المجال الإنساني والإغاثي.
في يناير الماضي، منحت قطر 68 عربة مدرعة للقوات المسلحة الصومالية، في خطوة اعتبرت تطورا لافتا في أوجه التواجد القطري هناك.
وتحقق للدوحة نفوذا واسعا داخل دولة الصومال من بوابة الأعمال الخيرية، وتأسيس مشروعات تنموية ضخمة في العاصمة الصومالية، فضلا عن تقديم منح مالية دورية.
ونجحت قطر في استثمار نفوذها لدى الصومال ومتانة العلاقات الشخصية التي تربط قادة البلدين، في أعقاب إغلاق دول الحصار مجالها الجوي في وجه الدوحة، عبر لجوء الخطوط الجوية القطرية إلى الصومال لتسيير رحلاتها الجوية.
واتخذ الصومال موقفا مغايرا لأغلب بلدان أفريقيا في الأزمة الخليجية، حيث لم تنضم لمعسكر الحصار، بل أصدرت عبر وزارة خارجيتها يدعو فيه الأطراف إلى الحوار واحتواء الأزمة دبلوماسيا.
اضف تعليقا