بعد 3 أسابيع من الحراك الشعبي المتصاعد، تراجع أخيرا الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة عن قرار ترشحه لولاية خامسة، وإلغاء الانتخابات التي كان مقررا لها 18 أبريل المقبل.
قرارات أخرى كثيرة رافقت الظهور الأول للرئيس الجزائري، بعد يوم واحد من عودته إلى البلاد عقب رحلة علاج في سويسرا، لتعلن استجابة لمطالب الشارع الجزائري، أو على الأقل رأس تلك المطالب.
فهل انتصر الشعب الجزائري فعلا، أم أن تلك الخطوة بمثابة مناورة من قبل النظام الذي يمسك بزمام السلطة في البلاد، تضمن من ناحية تهدئة الشارع الثائر، وبقاء مفاصله تحكم من ناحية أخرى؟.
رسالة التراجع
الرسالة التي تضمنت سحب الترشح لولاية خامسة وتأجيل الانتخابات، ونشرتها وكالة الأنباء الرسمية تضمنت أيضا إعلان تشكيل ندوة وطنية (حوار وطني) يشمل مختلف القطاعات، بهدف الوصول إلى صيغة لدستور جديد يُعرض لاستفتاء شعبي قبل نهاية العام الجاري.
كما قرر بوتفليقة إدخال “تعديلات جمة” على الحكومة، وإثر ذلك، أعلنت وكالة الأنباء الرسمية استقالة رئيس الحكومة أحمد أويحيى، وتولي وزير الداخلية نور الدين بدوي المنصب خلفا له، وتعيين رمضان لعمامرة نائبا لبدوي.
وتضمنت القرارات حل اللجنة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات التي لاحقتها اتهامات بالتبعية لأجهزة الأمن، و”إنشاء لجنة انتخابية وطنية مستقلة ستُحدد عهدتها وتشكيلتها وطريقة سيرها بمقتضى نص تشريعي خاص، يستوحى من أنجح و أجود التجارب والـممارسات الـمعتمدة على الـمستوى الدَّوْلي”.
وقال بوتفليقة في رسالته: “لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لم أنْوِ قط الإقدام على طلبها حيـث أن حالتي الصحية وسِنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري، ألا وهو العمل على إرساء أسُس جمهورية جديدة تكون بمثابة إطار لنظام جديد نصبوا إليه جميعًا”.
وأضاف: “لن يُجْرَ انتخاب رئاسي يوم 18 من أبريل المقبل، والغرض هو الاستجابة للطلب الـمُلِح الذي وجهتموه إلي، حرصا منكم على تفادي كل سوء فهم فيما يخص وجوب وحتمية التعاقب بين الأجيال الذي الْتزمت به”.
وبشأن الندوة الوطنية قال إنها “ستكون هيئة تتمتع بكل السلطات اللازمة لتدارس وإعداد واعتماد كل أنواع الإصلاحات التي ستشكل أسيسة النظام الجديد”، متعهدا بأن تكون “عادلة من حيث تمثيل المجتمعِ الجزائري ومختلف ما فيه من الـمشارب والـمذاهب”.
وبالتزامن مع إعلان القرارات استقبل بوتفليقة في ظهوره الأول منذ العودة من رحلة العلاج، بجانب أو يحي وخليفته ونائبه، كلا من الفريق قايد صالح نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش، والدبلوماسي الجزائري المخضرم والمبعوث الأممي السابق إلى سوريا، الأخضر الإبراهيمي.
ويرى مراقبون أنه من المحتمل أن يلعب الإبراهيمي دورا مهما في المرحلة المقبلة بالجزائر خاصة بعد قرارات بوتفليقة اليوم، متوقعين أن تسند إليه مهمة رئاسة الندوة الوطنية أو لجنة الانتخابات.
من كتب الرسالة؟
وبقدر ما شكلت قرارات بوتفليقة مفاجئة كبيرة على كافة الأصعدة، بقدر ما أثارت تساؤلات لا متناهية، بشأن حقيقة ما أعلن عنه، وصاحب الرسالة الفعلي، وضمانات تنفيذ ما ورد بها، ودور الجيش أو النظام الحاكم فيما جرى، وفوق كل ذلك تساؤل: هل انتصر الشعب الجزائري حقا؟.
لا شك أن القرارات التي أُعلنت سواء اتخذها بوتفليقة أو من يطلق عليهم السلطة الذين يمسكون بزمام البلاد، تمثل تراجعا من قبل هذا النظام أمام الحراك الشعبي غير المتوقع ، والإصرار على استمراره متجاهلا أي تخويف من مصائر شعوب أخرى مجاورة.
التشكيك ليس في تنفيذ تلك الوعود من عدمه، بل امتد للتشكيك في كون الرئيس بوتفليقة هو من كتب تلك الرسالة واتخذ تلك القرارات المعلنة.
أصحاب وجهة النظر تلك يستندون إلى عدة شواهد، أولها تلك الحالة الرثة التي بدا عليها بوتفليقة في ظهوره الأول، حيث ظهر دون حركة تذكر سوى مصافحته لمن استقبلهم، وإشارته لبعضهم بالجلوس.
(بوتفليقة بوضع صحي حرج في ظهوره الأول منذ الأزمة)
ورغم الاجتهاد في إظهار الرجل يتحدث، إلا أن حركات شفتيه الظاهرة في الفيديو السابق ونظرات ضيوفه لا تنم عن أي حديث أو كلمات تفوه بها، ولعل نظرات الأخضر الإبراهيمي للرئيس تشير إلى ذلك.
ولم يلتفت بوتفليقة لينظر في وجه من يحدثه، بل استمرت نظراته ثابته في اتجاه واحد، وبدت ملامح وجهه شاحبة وهزيلة، ووزنه متناقصا بشدة.
المثير في رسالة القرارات الأخيرة أنها تضمنت جزئية في غاية الخطورة، تلمح إلى أن من كتبها ليس بوتفليقة، أو أن من أعلن ترشحه لولاية خامسة في وقت سابق ليس الرئيس.
ففي رسالته الأخيرة قال: “لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لم أنْوِ قط الإقدام على طلبها..”، بينما قال في رسالته للمواطنين عقب إيداع أوراق ترشحه رسميا والمنشورة عبر الوكالة الرسمية بتاريخ 4 مارس الجاري: “ قبل بِضعة أيام، واستجابةً لنداءات المواطنين والطبقة السياسية والمجتمع المدني، وبروح تحذوها نية استكمال الواجب السامي لخدمة بلدنا وشعبنا، أعلنتُ عن ترشحي للانتخابات الرئاسية لشهر أفريل (أبريل) المقبل”.
مناورة النظام
الشواهد السابقة، فضلا عن الحالة الصحية للرئيس المتردية منذ إصابته بجلطة دماغية في 2013 وما يقال بشأن إدارة آخرين لشؤون البلاد منذ ذلك الحين، تصب كلها في اتجاه واحد وهو أن ما يحدث منذ انتفاضة الشارع سواء الترشح أو التراجع، ليس بإرادة بوتفليقة الذي لا يملك لنفسه من الأمر شيئا.
النظام أو “السلطة- le pouvoir” أو “العصبة الحاكمة” كما أسماها تقرير نشرته مجلة The Economist البريطانية، والمشكلة من جنرالات الجيش والأجهزة الأمنية ورجال الأعمال والسياسيين، تبدو هي المسيطرة على قرارات الرئيس، تلك العصبة الحاكمة التي أبقت بوتفليقة في السلطة رغم حالته الصحية.
وعليه فإن ما يحدث ليس سوى مناورة من قبل هذه السلطة، يلتقط فيها الأنفاس وربما يخطط لما هو قادم من أحداث وفق سيناريوهات مختلفة، وفي الوقت ذاته يعيد إنتاج نفسه بوجوه جديدة أو بتلك القديمة بعد تلميعها.
المفارقة في نماذج الدول المجاورة التي شهدت ربيعا عربيا في 2011، جاءت في كلمات بوتفليقة الأخيرة عندما قال إنه لم ينو قط الترشح لعهدة خامسة، وهو ذاته ما قاله الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك “لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة”.
الآن ذهب مبارك لكن بقي نظامه بخليط من وجوه قديمة وأخرى جديدة، على نحو يقول مراقبون إنه أسوأ بكثير من فترة حكم مبارك، فهل تعيد الجزائر الكرّة عبر الطريق نفسه؟.
الواقع يوحي بأن تلك السلطة الحاكمة كانت تضع خطة مقسمة بحسب ردود أفعال الشارع الجزائري، بحيث يعلن بوتفليقة ترشحه وفق الخطة (أ) فإذا استمرت احتجاجات الشعب ترسل رسائل التخويف عبر الجيش أو التطمين في رسالة التعهدات الستة.
تلك المناورة تضمنت أيضا الخطة (ب) وهي التي دخلت حيز التنفيذ الآن، بعد أن فشلت رسائل التخويف والتطمين، ولابد أيضا من وجود الخطة (ج) وربما غيرها من الخطط، وفق مناورة السلطة، في حال استمر الحراك الجماهيري.
اضف تعليقا