العدسة – ياسين وجدي:

بات الفساد في ملف الصحة في الوطن العربي وجها آخرا للقتل الممنهج ، وحالت الثورات المضادة أو محاولات الدولة العميقة للقفز على الربيع العربي في مواجهة حاسمة مع ذلك الفساد المتوطن وفق ما يرى المراقبون.

وبحسب رصد “العدسة” فإن الثورات المضادة  تورطت في الانحراف بأولويات الميزانيات المالية في بلدان العرب إلى المواجهة المسلحة وانتشار العنف والإرهاب مع إلغاء الديمقراطية وعودة الانقلابات ما أثر على استمرار الفساد خاصة في الملف الصحي الخطير.

فساد قاتل 

وأحدث حوادث الإهمال والفساد في ملف الصحة كانت من تونس التي تلاحقها محاولات فاشلة من موالين للثورة المضادة ، حتى أجبرت رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد السبت الماضي على قبول استقالة وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف، وذلك على خلفية وفاة 11 رضيعا في مستشفى حكومي بالعاصمة ،قالت وزارة الصحة التونسية أنه يرجح أن تكون ناتجة عن تلوث في الدم تسبب سريعا في هبوط الدورة الدموية للرضع.

رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي استبق الكوارث وأقر قبل يومين بتغول الفساد في بلاده وأطلق ضده خاصة بالملف الصحي حملة واسعة تقوم على التعاون بين السلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية)، حيث ينافس بحسب المراقبين الفساد في قطاع الصحة ، الإرهاب في خفض أعمار العراقيين،  مما جعل المستشفيات الحكومية وفق تقارير محلية عراقية مكانا لنقل الأمراض لا العلاج منها.

وينهش الفساد القطاع الصحي الليبي ، ويقدر بعض خبراء القطاع الصحي، أن الليبيين ينفقون نحو خمسة مليارات دولار سنويًا في دول الجوار لتلقي العلاج، فضلاً عن تعرض الكثير منهم لعمليات احتيال ممنهجة، في غياب رقابة المكاتب الصحية بالخارج، بل وفسادها مقابل عملات مالية وسط اتهامات بوجود شبهة فساد في عمل وزارة الصحة وسلوك متبع لإهدار المال العام والتلاعب في العقود للمشروعات والتوريدات.

أما في مصر فحدث ولا حرج ، فقد توطن الفساد في وزارة الصحة المصرية ومراكزها بشكل موثق ، وبلغ إجمالي عدد قضايا الفساد المتعلقة بقطاع الصحة 15 ألفا و81 قضية، في العام 2016  ، واحتلت محافظة القاهرة المركز الأول في المخالفات يليها الدقهلية والشرقية، من ضمنهم وقائع إهمال طبي تسببت في وفاة مواطنين بلغ عددهم 493 قضية.

وفي السعودية ، اعترفت الدكتورة تغريد الغيث، المدير العام لإستراتيجية الرعاية الصحية في المجلس الصحي السعودي، في نهايات عام 2017 بوجود فساد داخل القطاعات الحكومية وعلى رأسها القطاع الصحي الذي يسمح بتطوير الفساد ، وهو ما وثقه الكاتب السعودي سعيد السريحي كذلك في صحيفة عكاظ الرسمية.

وفي دراسة حديثة أعدها البنك الدولي ، يواجه قطاع الرعاية الصحية في الأردن تحديات في مساعي تحسين الجودة؛ بسبب غياب المساءلة والرقابة، رغم ضخامة الإنفاق الذي يضاهي تقريبًا ما تنفقه بعض الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا والنمسا ، فيما أحالت “هيئة النزاهة ومكافحة الفساد” في الأردن إلى القضاء في العام 2016 العديد من ملفات قضايا من القطاع الصحي بعد كشف “تجاوزات بالجملة في وزارة الصحة ودوائرها” وهو ما تكرر في العام الجاري كذلك دون حدوث أي تغيير.

للفساد أسباب

ويقف وراء استمرار الفساد في ملف الصحة في الوطن العربي العديد من الأسباب في مقدمتهم بحسب ما هو مرصود دور الثورات المضادة للربيع العربي التي دعمت النزاع المسلح والدمار على حساب أولويات الصحة التي تبنتها الموجة الأولى من الربيع العربي في العام 2011.

ودق تقرير حديث للمنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات، ناقوس الخطر في هذا الإطار مؤكدا أن ليبيا كنموذج أصاب قطاعها الصحي وباء الفساد بسبب ” التدهور الأمني والصراعات المسلحة، التي عطلت معظم الخدمات التي تقدمها هذه المرافق التي أغلق معظمها” مضيفة كذلك أن “الانفلات الأمني أدى إلى هروب معظم العمالة الأجنبية وعودتهم لبلدانهم، خاصة الأطباء والممرضين والفنيين منهم، وتوقفت بعض المرافق الصحية جزئيا عن العمل”.

مراقبون أضافوا سببا رائجا في مناطق النزاع ما بعد الربيع العربي، وهو اختلال الميزانيات لصالح الصراع المسلح ، حيث أشاروا إلى أن “السبب الرئيسي في الإهمال والفساد هو أن المستشفيات والمراكز الصحية لا تملك ميزانيات كافية” وضربوا مثالا كذلك بوزارة الصحة في ليبيا التي لم يجرِ رصد ميزانية خاصة بالوزارة منذ العام 2013، لعدم وجود ميزانية معتمدة من قبل الجهاز التشريعي.

منظمة الشفافية الدولية أشارت إلى نفس الملمح في أحد تقاريرها الحديثة ، حيث عزت وجود ست من أكثر عشر دول فسادا في العالم عربية، بسبب انعدام الاستقرار السياسي والنزاعات الداخلية والحروب وتحديات الإرهاب، وهي: سوريا والعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا .

“الرشوة واختلاس المال العام، واستغلال السلطة لمصالح شخصية، والمحسوبية في الخدمة المدنية ومنها الطبية وتضارب المصالح” كانت الأسباب كذلك في احتلال الإمارات المرتبة الأولى في العالم العربي بمؤشر مدركات الفساد للعام 2017 الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، بينما جاءت السعودية في المرتبة الثالثة عربيا بسبب تلك السلوكيات المرتبطة بالفساد.

ومع مطلع العام الجاري  كشف مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، الصادر عن ذات المنظمة أن استمرار أزمة الديمقراطية وراء الفشل المتواصل لمعظم الدول في الحد من الفساد على نحو فعال ، واحتلت سورية  في المؤشر أعلى معدلات الفساد، بجانب مصر والسعودية والإمارات والبحرين والعراق والجزائر والسودان والأردن.

وتجد هذه الأسباب تجربة خصبة للنمو في ظل عدم الإنفاق العربي على ملف الصحة وفي هذا الشأن ، يقول سليمان هارون -نقيب المستشفيات في لبنان-: ”تصل موازنات وزارات الصحة إلى حدود 10% من الموازنة العامة، ولا تتعدى 1% لدى معظم الدول العربية، أو أقل في بعضها ، وتمثل هذه المشكلة واحدة من أهم مشكلات القطاع الصحي في العالم العربي، ومنها تتفرع الكثير من المشكلات”.

تجربتا تركيا وكوبا

ويرى أطباء متخصصون أن إصلاح المنظومة الصحية في العالم العربي، يتطلب الكثير من الأشياء منها التركيز على إصلاح منظومة رواتب الأطباء، موضحا أن التجربة التركية جيدة في هذا الإطار، لكن تطبيقها في العالم العربي يحتاج لآليات جيدة للمراقبة والمتابعة.

وأضافوا أن تجربتا النجاح لدولتي كوبا وتركيا، حولا الخدمة الصحية من عبء على الدولة، إلى مصدر للدخل، فصارتا من الدول الرائدة في الخدمات الصحية، بل إن الأثرياء العرب يذهبون إلى هاتين الدولتين لتلقي العلاج، وهو ما يعد إهدارًا للإمكانيات المادية لدى العالم العربي، وفق قول الطبيب الليبي علي أبو قرين، عضو اتحاد المستشفيات العربية.

ومنذ 2003 رفعت الحكومة التركية في عام 2003 رواتب الأطباء، لكنها ربطت ذلك بأدائهم في المستشفيات العامة، ثم حظرت في عام 2010 على الأطباء المعينين في القطاع الحكومي العمل في القطاع الخاص، ونجحت تركيا في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية فيما يخص الصحة قبل فترة طويلة من حلول الموعد المحدد وهو عام 2015 ، وفقًا لإحصاءت منظمة الصحة العالمية فقد نجحت التجربة ، أما في كوبا والتي يعتبر اقتصادها أقل من دول الخليج في الإمكانيات المادية فلديها خدمة صحية ممتازة لقرابة 11.24 مليونًا من سكانها، وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية .

ويؤكد د. عاصم منصور مدير مركز الحسين للسرطان في الأردن أهمية البدء في إصلاحات شاملة وواسعة للأنظمة الصحية القائمة في الوطن العربي ، واعتماد مبادئ الحوكمة الرشيدة وبناء إستراتيجيات صحية قابلة للتنفيذ تحمل بين طياتها آليات تنفيذية ومالية واضحة، والقيام بإصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي وإصلاحات ضريبية تؤمن الموارد المالية التي تضمن استدامة الأنظمة الصحية، وإعادة الاعتبار للوقاية من الأمراض كحجر أساس لأي نظام صحي، بجانب تطبيق برامج الرعاية الصحية الشاملة.