أحمد حسين
من جديد تسجل التجربة التونسية الفريدة بين دول الربيع العربي خرقا، بصدام متجدد بين رأسي السلطة في البلاد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، اللذان يقتسمان السلطات وفق الدستور المعمول به منذ عام 2014.
الرئيس الباجي قايد السبسي دعا لتعديلات دستورية تمنحه مزيدا من الصلاحيات على حساب رئيس الوزراء يوسف الشاهد، ليدخل الصراع بين الرجلين مرحلة جديدة قبل أشهر من انتخابات برلمانية ورئاسية مقررة في أكتوبر ونوفمبر المقبلين، على الترتيب.
فإلى أين يمكن أن يصل الخلاف بينهما، وما حقيقة التنازع في السلطات وكيف قسّمها الدستور؟.
تحجيم الشاهد ومعاقبة النهضة
السبسي قال في خطاب، الأربعاء، بمناسبة عيد الاستقلال: “رئيس الجمهورية لم تعد له سلطة كبيرة.. لدي تحوير للدستور جاهز”.
وأضاف “سيكون من الأحسن التفكير في تعديل بعض فصول الدستور”، مشيرا إلى أن السلطة التنفيذية هي برأس واحد يسيطر عليها رئيس الحكومة، ورئيس الدولة مسؤول عن سياستها الدفاعية والخارجية.
وأوضح السبسي أن لديه نسخة جاهزة لمقترحات التعديل الدستوري، دون تقديم تفاصيل إضافية حول فحوى المقترحات المذكورة، معزيا الحاجة لهذا التعديل إلى وجود “اختلاف في تأويل بعض فصول الدستور”، داعيا إلى حل هذا الإشكال.
وقال إن المادة 71 من الدستور التونسي، تنص على أن “السلطة التنفيذية يمارسها رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس حكومة” متابعا أن تشكيل الحكومة الأخيرة “جرى دون استشارة الرئيس، بتوافق بين رئيس الحكومة وحركة النهضة”.
وأكد السبسي أنه “لم يكن ضروريا الذهاب إلى المجلس (البرلمان لطلب الثقة على الحكومة) دون المرور برئيس الجمهورية” مشددا على أن ذلك “مخالف للدستور”، معتبرا أن السلطة التنفيذية أصبحت برأس واحد عكس ما ينص عليه الدستور.
في نوفمبر الماضي دعا السبسي رئيس الوزراء للاستقالة، إلا أن الشاهد تحداه وذهب إلى البرلمان الذي صوّت بأغلبية مطلقة، على منح الثقة لتعديل وزاري اقترحه الشاهد، دون استشارة الرئيس، تم بموجبه تعيين 13 وزيرا جديدا وخمسة كتاب دولة (سكرتير) برتبة وزير، بالتنسيق مع حركة النهضة.
وضمن حديثه عن دواعي إجراء التعديل، تطرق السبسي إلى “الخلاف بينه وبين بعض الحساسيات السياسية، حول قراءة النص الدستوري في خصوص المرجعية الدينية”، في إشارة إلى حركة “النهضة” الرافضة لمبادرة رئاسية لإقرار المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة.
وبحسب السبسي، فإن “الدستور واضح في فصله الثاني، وينص على أن تونس دولة مدنية”. فيما ترى حركة “النهضة”، أن المبادرة الرئاسية تتعارض مع الدستور في مادته الأولى التي تنص على أن “تونس دينها الإسلام”.
وقال إنه في حال “عاد إلينا الشاهد، فسنذهب يدا بيد حتى نخرج من هذا المأزق (السياسي)”، دون أن يحدد ما إن كانت عودة الشاهد تعني استئناف عضويته المجمدة بحزب “نداء تونس”، أم أنه يقصد تحسن العلاقات بينهما عقب القطيعة الراهنة.
القطيعة بين السبسي والشاهد، تفاقمت بتأسيس مقربين من الأخير الشهر الماضي، حزب “تحيا تونس”.
تعديلات غير ممكنة
الدستور التونسي الذي أقره البرلمان في عام 2014، بعد انتفاضة عام 2011 التي أطاحت بحكم الدكتاتور زين العابدين بن علي، قلّص بشكل كبير من السلطات الواسعة السابقة للرئاسة ومنح رئيس الوزراء والبرلمان دورا أكبر بكثير.
وبحسب آراء فقهاء قانونيين فإن مسألة تعديل الدستور غير ممكنة حاليا، إذ لا يمكن تعديله إلا بموافقة المحكمة الدستورية التي لم تنشأ بعد”.
وعلى مدار أعوام فشل البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة التي نص عليها الدستور، نتيجة عدم التوافق بين مكوناته على المرشحين الأربعة الذين يفترض أن ينتخبهم من بين 12 عضوا للمحكمة بأغلبية الثلثين، في المقابل يرشح كل من المجلس الأعلى للقضاء ورئاسة الجمهورية بقية الأعضاء بالتساوي.
ووفقا لدستور البلاد، تتوزع السلطة بين رئيس البلاد ورئيس الحكومة، لكن أوسع الصلاحيات في تسيير شؤون البلاد يمنحها الدستور إلى رئيس الحكومة، بينما تتركز ملفات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية بيد رئيس الجمهورية.
ويتمتع الرئيس بموجب الفصل 75 من الدستور التونسي بصلاحية تعيين مفتي الجمهورية أو إعفائه، كما يتولى القيام بالتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، إضافة إلى التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة.
كما يتولى رئيس الجمهورية تعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، كما يخول له الدستور حل البرلمان وطرح مشاريع قوانين على الاستفتاء.
ويسمح الفصل 79 من دستور البلاد لرئيس الجمهورية “في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها… أن يتخذ التدابير التي تحتملها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية”، ويعلن عن كافة التدابير في بيان يوجه إلى الشعب.
بين قرطاج والقصبة
في 2016 اختاره السبسي لرئاسة الحكومة، لكن سرعان ما دب الخلاف بينهما وازداد نفوذ الشاهد على حساب الرئيس، ولم يكن الخلاف المعلن بين رئاسة الجمهورية في قصر قرطاج، ورئاسة الحكومة في القصبة وليد دعوة السبسي إقالتها، بل يمتد إلى يناير 2018، حين دعا السبسي الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج التي تم على أساسها تشكيل حكومة الشاهد، إلى الاجتماع، مجددا، للتوافق على خريطة طريق جديدة للعمل الحكومي.
ووثيقة قرطاج اتفاق وقعت عليه 9 أحزاب سياسية، والاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، ليكون خريطة طريق لحكومة الشاهد.
تعطلت “وثيقة قرطاج 2” التي كان يرغب السبسي في تمريرها بسبب الإصرار على رحيل حكومة الشاهد، من قبل حزب نداء تونس، والاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن حركة النهضة تمسكت بالرجل، الأمر الذي دفع الرئيس إلى تعليق العمل بوثيقة قرطاج.
ولعل إصرار السبسي على إقالة الشاهد وميل النهضة لدعم الأخير، ليس فقط بسبب اختلاف الرؤى والتوجهات، لكن الخلافات الداخلية التي ضربت نداء تونس أشعلت صراعا كبيرا بين الرجلين، زكاه موقف النهضة.
ولم يمض وقت طويل، حتى بدأت التناقضات في الظهور بين مختلف المكونات التي اجتمعت قبل الانتخابات حول الرئيس السبسي، لتشكيل كيان سياسي قادر على منافسة حركة النهضة.
ففي سبتمبر 2015، انسحب الأمين العام للحزب محسن مرزوق، ومعه عدد كبير من الكوادر والأعضاء والنواب، ليشكل فيما بعد “حركة مشروع تونس”، وفي مارس 2016، انسحب رئيس الهيئة السياسية رضا بلحاج، ومعه مجموعة أخرى من القياديين، ليتواصل نزيف الاستقالات والتشققات ولتنزل معه كتلة الحزب في البرلمان من المرتبة الأولى إلى الثالثة.
وبعد مغادرة السبسي قيادة الحزب، إثر توليه رئاسة الجمهورية، شهدت الهياكل العليا حالة فراغ تحولت، إلى صراع بين عدد من الشخصيات التي ترى نفسها مؤهلة للقيادة وملء الفراغ الذي تركه السبسي.
وكانت شخصية نجل الرئيس حافظ قائد السبسي، رئيس الهيئة التنفيذية للحزب، حاضرة في صراع النفوذ، لتتحول المعركة بين قيادات طامحة إلى أداء أدوار متقدمة من جهة، والرئيس وأسرته من جهة أخرى.
ولم يصبح الشاهد مجرد وزير أول في حكومة الرئيس ينفذ توجيهاته، بل باشر بأداء دور رئيس حكومة فعلي، الأمر الذي أقلق السبسي من طموحات سياسية للشاهد ودفعه إلى الإصرار على إقالته.
وتزعم نجل السبسي قرار حزب نداء تونس في سبتمبر الماضي تجميد عضوية رئيس الوزراء، بدعوى رفضه الإجابة على استجواب داخلي للحزب يتهمه فيه بالخروج عن الخط الحزبي.
الشاهد سبق أن اتهم نجل الرئيس بتدمير الحزب الحاكم وتصدير مشاكله لمؤسسات الدولة، بينما يطالب نجل السبسي الشاهد بالاستقالة وفتح الطريق أمام تشكيل حكومة جديدة بدعوى ضعف مؤشرات الاقتصاد.
اضف تعليقا