ما زال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يغرد بأحلامه بعيدا عن مؤسساته الاستخباراتية والعسكرية ويستعجل انتصارات إعلامية يقول البعض أنه قد يدفع ثمنها أضعافا مضاعفة.

الرجل لم ينتظر تقارير أجهزته بعد ارتكاب قواته وحلفائها مجزرة في “الباغوز”، وأعلن الانتهاء من تنظيم “داعش” الإرهابي بطريقته التلفزيونية بينما ما زالت الأسئلة حاضرة ذات منطق وحيثيات: هل انهزمت داعش فعلا أم أن الصورة الأخيرة لها في “البوغاز” بما رافقها من مظلومية كما يرى البعض تساعد على لم الشتات مرة أخرى والانتقام، وهل تبقى كارت في يد البعض تحت وطأة الاختراق المعروف عنها ؟

مجزرة “الباغوز”

من “الباغوز” الإجابة الأولى، حيث يرى مراقبون كثيرون أن ما حدث هناك مجزرة أمريكية بشعة بالتعاون مع حلفائها ضد المدنيين خاصة النساء والأطفال والعجائز، تشكل مظلومية كبيرة قد تفتح الباب لتمدد آخر للدواعش.

وبحسب تقارير عربية وشهادات متواترة من عناصر عربية من القوات التي تعرف بـ”سوريا الديمقراطية” أو “قسد” فقد تم دفن أكثر من 300 جثة معظمهم من النساء والأطفال بشكل جماعي في حفرة بعد شن 30 غارة على المخيم من طيران التحالف الدولي ليلة الثلاثاء 19 مارس مما جعل المكان “محرقة” بحيث لم يعد هناك أحد على قيد الحياة مع اختفاء غالبية ملامح الجثث بالتزامن مع قيام قوات كردية خاصة بإعدام العدد القليل الباقي من الجرحى ، ولم ينج إلا 9 أطفال تم نقلهم إلى مخيم الهول قرب الحسكة.

المجزرة فجرت سيلا كبير من الاعتراضات والتحذيرات، واعتبر محللون سياسيون أن قسوة الحملات العسكرية الأمريكية وانتهاكات القوات البرية المشاركة في هذه الحملات، من ميليشيات حشد شعبي عراقي متطرفة ، وقوات كردية قومية مسحت قرى عربية بالكامل شمال العراق وسوريا، هو بحد ذاته استفزاز عرقي لسكان المنطقة يخرج المعركة ضد “داعش” عن أهدافها الأصلية المعلنة، ويجعل ثمن القضاء على التنظيم أعلى مما يحتمل.

وشكلت المجزرة كذلك حالة مظلومية وتعاطف مع الضحايا امتدت في بعض الأحيان إلى “داعش” نفسها ، وتواترت الكتابات في منصات عربية كثيرة تصف ما حدث بأنه  “هولوكوست” ومذبحة جديدة للمسلمين ، وتطلق أوصافا تتعلق بالمواجهة الصفرية مع الغرب على غرار وصف البعض ما حدث بأنه “مجزرة الصليب الداعشي” ، واستحضرت كثير من الوقائع التاريخية عن الحرب الوجودية الموجهة ضد المسلمين على وجه الخصوص بل وشن البعض هجوما على الداعية الإسلامي الدكتور طارق السويدان بعدما احتفى بالقضاء على آخر جيب لداعش دون الحديث عن المجزرة ضد المدنيين .

حقيقة الهزيمة

في 22 مارس الماضي أعلن البيت الأبيض أن تنظيم “داعش” قد تم القضاء عليه تماما بنسبة مائة بالمئة في سوريا، وحمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورقة عليها خريطتان لسوريا، الأولى بها لون أحمر تمثل الأراضي التي كانت تحت سيطرة داعش، قبل توليه السلطة والأخرى بدون اللون الأحمر، ولكن البعض ما زال يدق أجراس الخطر وأن الأمر لم ينته بعد بالقضاء الوحشي على “البوغاز” .

إعلان “ترامب” بحسب المتابعين تكرر قبل ذلك 16 مرة ، ويتعارض مع كبار القادة لديه وفي مقدمتهم  دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية الذي أشار في  29 يناير الماضي إلى أن “داعش” يمتلك آلافًا من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.

وسبق تصريح دان كوتس تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة، حيث قال ما نصه:” إن تنظيم داعش، ربما ما يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك ما يزال الرئيس ترامب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش”.

وفي تقرير أميركي حديث فإن التنظيم وضع خطة من قبل سقوطه بأن يركز على الريف، ويتحاشى المدن موضحا أن المنظمات التي تتعهد بالولاء لـ(داعش)، ما زالت في غرب أفريقيا، وليبيا، واليمن، والفلبين، وإندونيسيا، على سبيل المثال لا الحصر، نشطة بصورة ملحوظة.

هذه الرؤية موجودة كذلك لدى خبراء استراتيجيين عرب يرون أن هناك إجماعا على أن تنظيم “داعش” لم ينته بشكل فعلي إلا في منطقة شرق الفرات كوجود مجسم على الأرض، ولكن وجوده كشبكة أمنية ما يزال واضحا من خلال العمليات الأمنية التي ينفذها على الأرض، كالاغتيالات بشكل يومي في منطقة شرق الفرات ضد عناصر تابعين لقوات سوريا الديمقراطية أو ضد قوات الأمن الداخلي الكردية (أسايش).

وبحسب الخبير الإستراتيجي عبد الناصر العايد فإن تنظيم “داعش” ما زال يسيطر على الأرض في البادية الجنوبية الشرقية لدير الزور بمساحة تصل إلى 4000 كيلومتر مربع، إضافة إلى وجوده في صحراء الأنبار ومنطقة تلول الصفا وما حولها.

وفي هذا السياق تعتبر كثير من التحليلات أن إعلان النصر في “الباغوز”، لا يعني نهاية تنظيم “داعش” ، أو انتهاء خطره، وأن العائدين منه سيشكلون تهديدًا لبلدانهم، وتستند هذه التحليلات على قدرة التنظيم على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته، مع استمرار وجوده في البادية السورية المترامية الأطراف، إضافة إلى إمكان استلهام تجربة “الذئاب المنفردة” لشن هجمات في أي مكان في العالم.

وتعزز بعض التحليلات وجهة نظرها بأن هزيمة التنظيم في العراق وسوريا وقبلهما في ليبيا لا تعني انتهاء خطر التنظيم الذي تمدد أيديولوجيًا قبل أن يتمدد هيكليًا من عاصمة الخلافة المزعومة إلى اليمن إلى مصر وصولاً إلى آسيا وأفريقيا.

مهام مخابراتية

هذه التحليلات تفتح الباب لحديث آخر ما زال مقلقا بحسب المراقبين، وهو استمرار استخدام ما تبقى من تنظيم “داعش” الإرهابي في مهام مخابراتية مدسوسة لتبرير الإرهاب الصهيوأمريكي ضد الأمة العربية والإسلامية.

هذا الهاجس شغل جزء من خطاب البعض عقب مجزرة “البوغاز” والذين يرون أن ” داعش” هي في الأصل صناعة مخابراتية لتسويغ النصب والابتزاز الأمريكي في المنطقة، وبالعودة إلى وثائق متواترة نشرها “العدسة” في وقت سابق، نجد أن الإمارات والسعودية تورطا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية في تمويل ودعم “داعش” بطرق مباشرة وغير مباشرة مقابل تنفيذ مهام لهم في بعض المناطق التقت فيها المصالح المشتركة.

 

واتهم نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن السعودية والإمارات بدعم “داعش” فيما يتعلق بالمراحل الأولى من الصراع في سورية، وهو ما أقر به الدكتور عبد الخالق عبد الله الأستاذ في جامعة الإمارات في تصريح لـ”مونت كارلو الدولية” موضحا أنه ” لا يمكن لأحد أن ينكر بأن نواة تسليح تنظم “داعش” كانت تلك الأموال التي أرسلت إلى تنظيمات جهادية في سوريا “بهدف القضاء على نظام بشار الأسد”.

مراسلات سرية سربتها تقارير متواترة كشفت كذلك عن دعم الإمارات لجماعات إرهابية منها داعش وصل إلى 150 مليون دولار خلال 30 يوماً في العام 2017، منها في سوريا بقيمة 500 مليون دولار ، ووفق تقارير حقوقية ، فإن أبوظبي موّلت الإمارات جماعة ولاية سيناء التابعة لداعش  في مصر بـ 31 مليون دولار.

وأكدت الوثائق  أن الإمارات دعمت داعش في الموصل وسوريا في أعوام 2015 ، و 2016 ، و2017 ، وشمل الدعم إنزال أسلحة نوعية خفيفة ومتوسطة من صنع أمريكي جديد تضمن قذائف هاون و صواريخ متوسطة المدى وذخيرة حية بملايين الرصاصات.

مستقبل “داعش”

وبحسب نتائج ندوة نقاشية حديثة نظمها مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” فإن هناك 3 سيناريوهات تحكم مستقبل “داعش” في مقدمتها إعادة بناء التنظيم في ظل بقاء العديد من قيادات “داعش” على قيد الحياة حتى الآن ، والاتجاه نحو فرض سيطرته على بعض المناطق الرخوة في دول الصراعات.

ويذهب السيناريو الثاني إلى قيام بعض عناصر داعش بالبحث عن ملاذات بديلة في أيٍ من ولايات التنظيم مثل: ليبيا، أو اليمن، أو جنوب آسيا لاسيما وأن التنظيم ما يزال نشط في هذه المناطق، ويتوقف هذا السيناريو على قدرة قيادات التنظيم على الانتقال إلى هذه المناطق في ظل الرقابة الأمنية المحكمة، وتشكيل حواضن اجتماعية قبل الانتقال.

أما السيناريو الثالث فهو تفكك “داعش” وتشظي التنظيم وتفككه إلى جماعات إرهابية صغيرة، حيث تقوم هذه الجماعات بشن هجمات إرهابية بدائية، والقيام بعمليات انتحارية، وزرع العبوات الناسفة مما يهدد الأمن والاستقرار في الدول التي تتمركز بها.