المستثمرون المجتمعون في مطعم فاخر بالقاهرة كانوا حريصين على ضخ الأموال في الاقتصاد، الذي كان قبل 3 سنوات فقط، يفتقر لوجود العملة الصعبة.
ثورة في عام 2011 (وانقلاب بعد ذلك بعامين) جعل مصر تنزلق إلى أزمة اقتصادية. المستثمرون والسياح والنمو جميعهم كان يعاني من الضعف الشديد. بلغت البطالة ذروتها عند 13.2%، وكان على الرئيس “عبدالفتاح السيسي” طلب قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق البنك الدولي عام 2016.
ومنذ ذلك الحين، اتبعت حكومته برنامجا إصلاحيا وفقا لشروط برنامج صندوق النقد؛ حيث رفعت أسعار الكهرباء والوقود. وفى هذا الصيف، سيتم ربط السعر الرسمي لأنواع كثيرة من البنزين (الذي كان مدعوما بشكل كبير في السابق) بأسعار السوق العالمية. عدد غير قليل من الناس تم استبعادهم من قوائم الدعم.
وجراء ذلك، تراجع عجز الميزانية؛ حيث بلغ 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2015 -2016. ومن المتوقع أن يتقلص العجز في العام المقبل (2019-2020) إلى 7.5%. وبعد أن سجل العجز في الحساب الجاري، قبل 3 سنوات، 19.8 مليار دولار، تراجع إلى 6 مليارات دولار العام الماضي (2017-2018). ويصف المستثمرون مصر بأنها من أهم الأسواق الناشئة في العالم، وهناك زيادة في مبيعات السندات.
ورغم المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، يشعر القليل من المصريون بتحقيق نمو أو إحراز تقدم. ففى السنوات القليلة الماضية، ارتفعت الأسعار، في ظل ثبات الأجور. وأبدي “السيسي” القليل من التعاطف مع محنتهم. ورفض شكاوى المواطنين بشأن ارتفاع أسعار الخضروات العام الماضي، ثم انتقد “بدانة” المصريين.
وظهرت إشارات جديدة من السخط خلال هذا الشهر، عندما وافق 89% من الناخبين على التغييرات الدستورية التي تسمح لـ”السيسي” بالبقاء في السلطة حتى 2030، بدلا من 2022 بموجب النص السابق للدستور. كانت النتيجة خاتمة مفروغ منها، بالنظر إلى أن نظامه الاستبدادي لم يسمح بحملة بـ”لا”. لكن نسبة المشاركة كانت 44% فقط. وكان على رجال الاعمال المتعاطفين إغراء الناخبين للتصويت في صناديق الاقتراع بصناديق الأطعمة.
ورغم كل رؤوس الأموال القادمة فإن الاستمارات التقليدية نادرة. وقال أحد المستثمرين من شركة أمريكية كبيرة: “أشعر بالارتياح لشراء ورقة مالية (سندات وأذون خزانة) لمدة عام.. شراء مصنع سيكون قصة مختلفة”.
بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر 6.6 مليارات دولار في النصف الأول من السنة المالية الحالية (2018-2019)، دون تغيير عن العام السابق (2017-2018) وبنسبة 11% أقل من العام 2016-2017. وانخفض صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 35% خلال فترة السنتين. ويذهب الكثير منه إلى قطاع الطاقة الأحفورية. إذ حولت الاكتشافات الأخيرة للغاز الطبيعي مصر إلى مصدِّر صاف، ومثل هذه الاستثمار يعزز الإيرادات، لكنه يخلق القليل من فرص العمل.
ويصر المسؤولون على أن الاستثمار الأجنبي المباشر قادم، لكن مؤشره دائما في تراجع. كما أن التوترات التجارية وتوقعات النمو غير المؤكدة تسببت في تراجع الاستثمار في جميع أنحاء العالم. بعض الشركات تخارجت من السوق المصري أثناء فترة نقص الدولار، وتخشى العودة حاليا. وقال “رزان ناصر” من بنك “HSBC”: “يستغرق الأمر بعض الوقت لبناء تلك الثقة”.
ورغم أن مصر لن تسعي لطلب تمويل إضافي عندما تنتهي من الحصول على كامل قرض صندوق النقد في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يعتقد معظم المحللين أنها ستتمسك بإصلاحاتها. لكن الاستثمار البطي ينعكس أيضا في ضعف السوق المحلية في مصر.
وفى العام الماضي، أعلنت كل من “كوكا كولا” و”بيبسي” عن استثمارات بقيمة 500 مليون دولار، كما أعلنت شركة “مارس”، عملاق صناع الحلويات، عن فتح خطي إنتاج جديدين. إلا أن القليل من المصريين يمكنهم تحمل تكاليف شراء منتجات من شأنها خلق وظائف ذات رواتب أفضل.
وعن ذلك، يقول رئيس اتحاد أعمال محلي عن السوق المصري: “هو سوق نامي كلاسيكي؛ حيث يمتلك 20% من السكان 80% من القوة الشرائية”.
وكانت صناعة السيارات، التي يأمل المسؤولون المصريون أن تكون محركا للنمو، شهدت تراجعا في المبيعات بعد انخفاض قيمة العملة المحلية إلى النصف (الجنية) عام 2016. خاصة أنه بإمكان نحو 100 ألف مصري فقط شراء سيارات جديدة.
وبدلا من بيع السيارات في الداخل، تريد مصر أن تصبح مصدرا لمناطق أخري من أفريقيا والشرق والأوسط. وتخطط الحكومة -في هذا الصدد- تقديم حوافز للموردين المحليين؛ حيث يمكن للشركات التي تشتري الكثير من المكونات المصنوعة محليا أن تتحصل على إعفاء بنسبة 80% من فواتير الجمارك.
ووافقت شركة “نيسان” بالفعل على إنتاج 100 ألف سيارة في مصر كل عام عبر شراكة مع “النصر للسيارات” وهي شركة مملوكة للدولة. لكن على مصر أن تتنافس مع المغرب، الذي استثمر بكثافة في البنية التحتية والتدريب في هذا المجال.
ومن المتوقع أن تعاني شركات الغزل والنسيج في مصر، وهي مصدر أخر محتمل للوظائف، للتغلب على منافسة لاعبين كبار مثل بنغلاديش وفيتنام.
ويأتي التحسن في الحساب الجاري لمصر بالكامل من السفر والتحويلات. وزادت عائدات السياحة بأكثر من الضعف لتبلغ 9.8 مليارات دولار (4% من الناتج المحلي الإجمالي) العام الماضي، بينما زادت التحويلات بنسبة الخمس إلى 26.4 مليار دولار.
توظف السياحة واحد من كل عشرة عمال. تعتمد مئات الآلاف من الأسر على التحويلات. لكن العجز التجاري في السلع آخذ في الاتساع. فقد بلغ 9.8 مليارات دولار في الربع الأول من عام 2018-2019 بزيادة مليار دولار عن العام السابق.
ورغم أن انخفاض قيمة الجنيه جعل البضائع المصرية أرخص للتصدير، إلا انها جعلت إنتاجها أكثر تكلفة لأن المصنعين يعتمدون على الواردات. وتشكل البضائع الخاص والوسيطة 41% من سلة استيراد مصر. وبعد سنوات من الاستثمار الضعيف، هناك القليل من الطاقات غير المستغلة في المصانع المصرية.
وتعني أسعار الفائدة المرتفعة أن الشركات المحلية لا تستطيع الاقتراض للتوسع. وفي فبراير/شباط، خفض البنك المركزي سعر الإقراض لليلة واحدة بمقدار 100 نقطة أساس، إلى 16.75%، لكن في مارس/آذار تحدي البنك التوقعات وأبقي المعدلات ثابته. عطلة رمضان وخفض الدعم الذي يلوح في الأفق سيؤدي إلى ارتفاع التضخم هذا الصيف؛ لذلك من غير المرجح القيام بمزيد من التخفيضات حتى الخريف.
هناك عقبة أخري أمام النمو، وهي المؤسسة التي قضي “السيسي” فيها معظم حياته (القوات المسلحة). فمن الصعب تحديد مقدار سيطرة الجيش على الاقتصاد في مصر؛ فميزانية القوات المسلحة سرية، وأرباحها غير خاضعة للضريبة. لكن الجميع يتفقون على أنها تنمو.
وقال وزير الإنتاج الحربي، “محمد العصار”، إن أرباحه بلغت 11.6 مليار جنية العام الماضي، بزيادة 130%. ولدي الوزارة صفقة بقيمة ملياري دولاري مع شركة صينية لتصنيع الألواح الشمسية واتفاق مع شركة أدوية فرنسية عملاقة لصنع اللقاحات.
عندما كافحت الشركات للحصول على الدولار، عرض عليهم الجيش صفقة؛ تتمثل في منحهم جميع العملات الأجنبية التي يحتاجونها مقابل حصة من شركاتهم. وذكر العديد من المديرين التنفيذيين نسخا من تلك النكتة وهي: “هناك نوعان من الشركات الناجحة في مصر، تلك التي يديرها الجيش، وتلك التي سيديرها الجيش قريبا”.
ويرغب المسؤولون في مقارنة التقدم الذي أحرزته مصر مؤخرا بالأيام المظلمة التي تلت عام 2011. لكن بإلقاء نظرة أطول قليلا، تبدو الأمور وكأنها عودة إلى القاعدة (النمط السائد)؛ فقبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 سجلت مصر معدلات نمو جيدة، وعجز يمكن السيطرة عليه. لكن كان هناك، أيضا، فقرا متصاعدا مع أجور منخفضة وقاعدة صناعية ضعيفة، ورئيس (حسني مبارك) بعيد كل البعد عن احتياجات شعبه
المصدر | الخليج الجديد
اضف تعليقا