ما إن تنتهِ الشعوب العربية من ثوراتها ضد أنظمة الحكم القمعية والاستبدادية في بلادهم، حتى يخرج لهم قادة الجيوش العربية ويقدمون أنفسهم باعتبارهم جهة إنقاذ للبلاد من الفوضى، وواجهة جديدة للحكم بدلاً من الأنظمة السابقة.

وتبسط الجيوش العربية سيطرتها على أنظمة الحكم في بلاد الثورات العربية، خاصة في دول شمال أفريقيا، ولا تعمل على تسليمها إلى حكومات مدنية، وتستغل عامل الوقت من خلال طرح مبادرات سياسية، وأخذ مدة طويلة في الرد عليها.

وبعد ثورات الربيع العربي في كل من مصر، وليبيا، والجزائر، والسودان، طغى العسكر على حكم البلاد وتقلدوا المناصب السيادية، وشكَّلوا حكومات قريبة منهم، تشمل لواءات في الجيش، وقادة عسكريين.

 

انقلابات عسكرية

الكاتب والمحلل السياسي فايز رشيد يؤكد أن العسكر سيطروا نتيجة سطوهم على الحركات الجماهيرية في عدة دول عربية، واستغلوا أحداثها لمحاولة السيطرة على مقدّراتها.

ويقول رشيد في مقال له بصحيفة “القدس العربي”: “تميَّزت بعض البلدان العربية بكثرة الانقلابات العسكرية فيها، ولو أخذنا السودان مثلاً، فقد وقعت فيها أربعة انقلابات وست محاولات بعد استقلالها”.

ويضيف رشيد: “العسكريون بدوا ويبدون في ثوب المُخلِّصين من الأنظمة القديمة، وما يلبثون أن يقوموا بترشيح أنفسهم وفي أثواب مدنيَّة، ليكسبوا انتخابات رئاسية مشكوك في نزاهتها، مرّة أولى، وثانية وثالثة، ولن يزيحهم عن مناصبهم إلا انقلاب عسكري آخر، أو الموت”.

ويتابع رشيد: “العسكري الوحيد الذي سلَّم السلطة إلى المدنيين في السودان هو عبد الرحمن سوار الذهب بعد انقلابه، والباقون يحددون فترات انتقالية لانتخابات رئاسية حرَّة، وينسون أو يتناسون مواعيدها، ويصبحون هُم القادة وبغالبية انتخابية جماهيرية، وفقاً لتقارير ونتائج معدّة سلفاً”.

ويرى أنه لا يمكن أن تطبق سلطة عسكريةُ المفاهيمِ والأساسِ العدالةَ أو الديمقراطية، ولا يمكنها أيضاً تطوير البلد في أي مجال، إذ تميّزت البلدان العربية التي يحكمها من نفذوا انقلابات عسكرية بأزمات متعددة، خاصةً الاقتصادية والبنيوية منها، ووصول شعوبها إلى حالة من الفقر.

 

فوضى الثورات

الكاتب في صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، أحمد أبو دوح، يؤكد في مقال له، أن فوضى ثورات الربيع العربي التي بدأت في 2011، منحت جنرالات الجيش أملاً جديداً في العودة إلى الصدارة، وفرصة لاستعادة الأرض التي خسروها في الألفية الثانية.

ويقول أبو دوح: “في الجزائر مثلاً، الجنرالات يرون أنفسهم المدافعين الشرعيين عن ثورة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي، وفي السودان يرون أنفسهم الأوصياء الوحيدين على الاستقلال عن الاستعمار البريطاني”.

ويضيف أبو دوح: “أيام الانقلابات العسكرية -التي كان يفرح بها الناس في العالم العربي- قد ولَّت، ويبدو أن الجنرالات هم الوحيدون الذين لا يرون ذلك”.

ويتابع: “الآن، كل من الجيش والمتظاهرين بالجزائر والخرطوم في أزمة حول طريقين للخلاص مختلفين للغاية. وكما أعطانا القرن العشرين لمحة عن كيفية بدء الحكم العسكري بالمنطقة، فقد يُظهر لنا القرن الـ21 كيف ينتهي، لكنه حتماً لن يكون سلساً أبداً”.

ويشير إلى أن الجنرال الجزائري قايد صالح يسير على قواعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، التي استُخدمت للإطاحة بحكم الإخوان المسلمين عام 2013.

ويوضح أن القرن الـ21 يُثبت أن أفراد المؤسسة العسكرية العربية لم يعودوا الفئة المتعلمة والمنظَّمة والمنضبطة الوحيدة بالمجتمع، حيث كان الاعتقاد السائد دائماً أن الشخص حينما يكون قائداً بالجيش فإن هذا طريق مختصر لأن يصبح رئيساً، ولعل انتفاضة السودان أحدث مثال على ذلك.

ويشير إلى أنه منذ أول انقلاب عسكري عربي قاده حسني الزعيم في سوريا عام 1949، كانت المؤسسة السياسية بالمنطقة تشبه معسكراً سيطر فيه الجنرالات على البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحكموا باسم الجيش لا الشعب.

ويردف بالقول: “الوضع الآن قد تغير وأصبح يتعين على جنرالات الجيوش العربية بذل جهد أكبر، حيث إنهم يواجهون طوفان الشباب الواعي لما يسعى إليه الجيش حقاً. وبقدر ما هناك كثير من الدروس للشعوب من الانتفاضات بأماكن أخرى، هناك أيضاً دروس للجنود في كيفية سحق هذه الشعوب”.

واجهة الأحداث

الكاتب وليد التليلي يؤكد أن الجيوش العربية كشّرت عن أنيابها في عدد من البلدان، وتحمل جميعها في الحقيقة الخوف نفسه من المصير، في السودان والجزائر ومصر وغيرها من البلدان.

ويقول التليلي في مقال له نُشر بصحيفة “العربي الجديد”: “تتفق مطالب الشعوب الثائرة في أكثر من بقعة عربية، على الدعوة إلى الحرية والكرامة والديمقراطية ونموذج حكم يحترم البشر ويُعلي من شأن الناس ويعتبرهم مواطنين لا رعيَّة يتم التحكّم فيهم”.

ويضيف التليلي: “غالباً ما تنتهي الثورة في العالم العربي إما إلى حرية وإما إلى عسكر يقفز إلى واجهة الأحداث، وهناك نموذجان: الأول تونسي، إذ تعهّد الجيش بصيانة مطالب الشعب ومراقبة زوال أنظمة وقيام أخرى، وحَمى الناس، وتابَع مسار الديمقراطية من ولادتها إلى تكوُّنها، ثم عاد إلى ثكناته وحدوده، للقيام بدوره الذي من أجله تتأسس الجيوش”.

ويوضح أن تونس انتخبت مرة واثنتين وثلاثاً تحت لافتة مستقلة، والمواطنون يتحدثون في الشوارع والصحف والمقاهي من دون خوف وبلا رقيب، والأحزاب تتنافس والقوانين سُنَّت لحماية المستقبل وإجبار الحاكم على احترام كل شيء والاحتكام فقط إلى القانون.

ويستطرد قائلاً: “النموذج الآخر هو مصر، التي يشهد شعبها وضعاً مؤسفاً، مع عودة نغمة التمديد للرئيس وتعديل الدستور على قياسه، وربما استمراره مؤبداً في الحكم، كأن ثورة لم تحدث في مصر ولا هُم يحزنون!”.

ويتوقع أن يتراوح مصير الأوضاع في السودان والجزائر بين النموذجين التونسي والمصري، والتعويل على دور حاسم للمواطنين في الدفع إلى أي من الاتجاهين، على غرار ما يحدث في الجزائر تحديداً، وتقابله مراقبة لصيقة لدور الجيشين في البلدين.

 

المصدر: الخليج أون لاين