مع توجه المزيد من القوات الأمريكية إلى الشرق الأوسط، يبدو أن احتمال حدوث صدام عسكري مع إيران آخذ في الازدياد. ويصر مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” على أن نشر حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” والطائرات الهجومية “سوف يرسل رسالة واضحة لا لبس فيها … بأن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو على مصالح حلفائها سوف يقابل بقوة لا هوادة فيها.” ويقول “بولتون” أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى الحرب مع النظام الإيراني”، لكن تصرفات الإدارة الأخيرة تعطي طهران سبباً كافياً للاعتقاد بأن الهدف النهائي للبيت الأبيض هو إثارة مواجهة عسكرية. بعد كل شيء، لم تصنف الإدارة فقط الحرس الثوري الإسلامي منظمة إرهابية أجنبية ولكنها ألغت الإعفاءات من العقوبات التي سمحت للصين والهند والعديد من الدول الأخرى بمواصلة شراء النفط الإيراني.

من الصعب أن نتخيل أن البيت الأبيض لم يتوقع أن ينتقم قادة إيران من هذا الجهد الواضح لإغلاق الاقتصاد الإيراني، وربما تكون حوادث تخريب السفن حول ميناء الفجيرة الإماراتي قد جاءت في هذا السياق. لكن الأكثر أهمية من ذلك هو إعلان الرئيس حسن روحاني الصادر في 8 مايو/أيار بأن إيران ستتوقف الآن عن الوفاء بالتزاماتها بالاتفاق النووي وهو ما يدل على يأس طهران المتصاعد. وحتى إن لم تكن تبحث عن حرب، فإن الإدارة الأمريكية تبدو عازمة على الأقل على متابعة لعبة عالية المخاطر تهدف إلى إظهار أن الولايات المتحدة لديها الوسائل والإرادة لردع وتخويف إيران.

 

ترامب وسياسة الردع

وتبقى مشكلة سياسة الردع هذه معروف حيث أن كل جانب يستعرض قوته العسكرية، سيشعر خصمه بأنه مضطر لحفظ ماء الوجه عن طريق الانتقام. ويظن البيت الأبيض أنه بإمكانه تجنب منحدر التصعيد الزلق، إما عن طريق تكديس ما يكفي من القوات لتخويف إيران أو إذا لزم الأمر، عن طريق شن ضربات جراحية تسبب ألما حقيقيا ولكن دون إثارة كابوس نزاع مسلح أوسع. وهذا حساب محفوف بالمخاطر بالنسبة لرئيس أمريكي راهن بسمعته ورئاسته على وعوده بالانتعاش الاقتصادي في الداخل وفك الارتباط عن النزاعات العسكرية في الخارج. ومع تمتع الولايات المتحدة بنمو اقتصادي مستدام ليس من المنطقي أن يرغب “ترامب” في الزج برئاسته في الثقب الأسود المتمثل في حرب طويلة متعددة الأطراف ومكلفة مع إيران.

ووراء مخاطر التصعيد يلوح تحدٍ دبلوماسي واستراتيجي أكثر أهمية وهو كيفية احتواء الآثار الطاحنة للمواجهة العسكرية الأمريكية الإيرانية في الشرق الأوسط. وأياً كانت مخاوفها بشأن الأعمال الروسية في مناطق أو دول أخرى (مثل فنزويلا)، فقد قبلت الإدارة الأمريكية فعليًا حقيقة أن موسكو رسخت نفسها في سوريا وأقامت تحالفا ضمنيا مع إيران وتركيا وصار لها الحكم النهائي في أي حل بعد انتهاء الحرب للحرب الأهلية في سوريا. وفي الواقع فإن هذا الترتيب في الواقع قد خفف على البيت الأبيض تحمل الأعباء العسكرية والبشرية والمالية والتكاليف التي لم يكن الرئيس الأمريكي مستعدًا لتحملها.

ومع ذلك، إذا كانت هذه السياسة قد أفادت “بوتين”، فقد كان لها تأثير ضئيل حتى الآن على المسار الخطير للعلاقات الأمريكية الإيرانية. ويتعين على “بوتين” الآن التأكد من أن التوترات بين الولايات المتحدة وإيران لن تدمر عملية التوازن الدبلوماسي التي رعاها منذ نحو خمس سنوات. وعلى الرغم من أن هذا لن يكون سهلاً، فإن موسكو في وضع جيد للاستفادة من الصراع الأمريكي الإيراني بطرق يمكن أن تساعد روسيا على إدارة الوفاق مع طهران وأنقرة، ناهيك عن علاقتها المعقدة مع إدارة “ترامب”.

 

قانون موازنة موسكو الصعب

وقد وضع “بوتين” سياسة في الشرق الأوسط تمنحه نفوذاً أكبر بكثير مما تستطيع الولايات المتحدة أن تمارسه، حتى مع تفوق واشنطن العسكري الواضح في المنطقة. وتنبع فعالية هذه السياسة من الربط المتماسك للوسائل الروسية مع هدف محدد بوضوح هو حماية بقاء “بشار الأسد”، الحليف الاستراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط. وبفضل كل من دمشق وطهران، زودت موسكو “الأسد” بالقدر المناسب من الدعم العسكري الذي يحتاجه، وبالتالي تم تجنب فشل المهمة. واستفادت موسكو أيضًا من رغبة كل من إدارتي “أوباما” و”ترامب” ليس فقط في تجنب المواجهة العسكرية مع روسيا، ولكن الأهم من ذلك اتباع استراتيجية عسكرية تركز على هزيمة الدولة الإسلامية بدلاً من الإطاحة بالأسد. وإلى جانب هذا التقارب الضمني للاستراتيجيات الأمريكية والروسية، فإن لدى “بوتين” علاقات دبلوماسية جيدة مع جميع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، بما في ذلك (إسرائيل). وفيما يفكر الرئيس الروسي خارج الصندوق، فإن إدارة ترامب محاصرة بسبب هوسها الأيديولوجي ببناء تحالف ضد إيران.

وترجم “بوتين” نجاحاته العسكرية في سوريا إلى مكاسب دبلوماسية أوسع من خلال تعزيز الوفاق بين موسكو ودمشق وطهران وأنقرة. وتحت مظلة عملية أستانا التي تقودها موسكو، لم تسع إيران وتركيا فقط إلى إيجاد أرضية مشتركة بشأن التحديات الاستراتيجية والسياسية العاجلة التي تواجههما في سوريا، بل أبدتا استعدادًا واضحًا ومتناميا للرد على إدارة “ترامب”. وفي سبتمبر/أيلول 2018، عززت موسكو هذه الدوافع ونجحت في تأمين دعم إيران وتركيا لخريطة طريق دبلوماسية لتحقيق الاستقرار في سوريا. وشمل ذلك انسحابًا جزئيًا للقوات الروسية، وإطلاق محادثات تهدف إلى إزالة الفصائل الجهادية السنية من محافظة إدلب، وإنشاء لجنة لكتابة دستور جديد (تم تحديد المبادئ الرئيسية له بالفعل من قبل الخبراء الروس)، وتحديد موعد الانتخابات. وتم التأكيد على هذه الخطة خلال قمة فبراير/شباط في سوتشي حضرها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، والرئيس الإيراني “حسن روحاني”، و”بوتين”.

تتوقف قدرة موسكو على الحفاظ على هذا الوفاق جزئياً على التأكد من أن ألا تنقلب المصالح والأهداف الخاصة بالأطراف الرئيسية على سفينة التوافق. تحتاج روسيا إلى حل بعد انتهاء الصراع لا يعزز شراكة موسكو الاستراتيجية مع “الأسد” فحسب، بل يضمن أيضًا قدرًا معقولًا من التعايش بين سوريا ودولها الحدودية،بما في ذلك تركيا و(إسرائيل). على النقيض من ذلك، سعت إيران إلى توسيع بصمتها العسكرية والاقتصادية في سوريا لفتح جبهة جديدة ضد(إسرائيل) عبر طريق بري يبدأ في طهران، ويمتد عبر العراق، إلى سوريا. ولدفع هذه الأجندة الطموحة، قيل إن إيران وقعت خمس اتفاقيات تعاون مع “الأسد”، بما في ذلك اتفاقية تسمح لها باستثمار الأموال في مدينة طرطوس الساحلية. وتؤكد التقارير التي أفادت بأن إيران كانت تدير مصنعًا دقيقًا للصواريخ بالقرب من القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية، إمكانية التنافس بين موسكو وطهران. في الواقع، قيل إن الجهود الإيرانية الطموحة قد استفزت موسكو لأنها أدت إلى تصعيد خطير للتوترات الإسرائيلية الإيرانية، والأهم من ذلك، لأن جهود إيران لإظهار القوة في سوريا يمكن أن تقوض سعي روسيا للوصول إلى حل مناسب.

بالمثل، يبقى التعاون الروسي التركي معرضا للمصالح ووجهات النظر المختلفة للبلدين. وتشكل جهود أنقرة لهزيمة القوات الكردية التي لعبت دوراً رئيسياً في هزيمة تنظيم الدولة أحد مصادر التوتر. لكن التحدي الأكبر كان رفض تركيا تنفيذ اتفاق يتطلب التفكيك السلمي للقوات الجهادية لأحرار الشام في شمال سوريا. ويدب هذا التردد التركي على صراع أعمق، حيق يحتاج حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه “أردوغان” – والذي عانى مؤخراً من هزائم انتخابية في الانتخابات البلدية – إلى الحفاظ على شرعيته كمدافع عن المصالح الإسلامية السنية في الداخل وفي المنطقة وما وراءها. وعلى النقيض من ذلك، تريد موسكو ودمشق هزيمة جميع القوى الإسلامية السنية وهم يبحثون عن هذا الهدف ليس فقط لأن مثل هذا النصر سيساعد “الأسد” على بسط سيطرته على شمال سوريا، ولكن بشكل أكثر أهمية، لأن موسكو ودمشق تعتقدان أن أمنهما طويل الأجل يتطلب إيصال ضربة قاتلة نهائية لجميع الجماعات السنية.

 

تعقيدات

سهلت دبلوماسية إدارة “ترامب” جهود بوتين لإخضاع التوترات المذكورة أعلاه وتغليب المصالح المشتركة لروسيا وإيران وتركيا. وكان أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على تدعيم هذا الوفاق هو قرار البيت الأبيض بالتخلي عن خطة العمل المشتركة الشاملة، وهي خطوة ندد بها “أردوغان”، مما أسعد زعماء إيران. وعززت جهود إدارة ترامب لمنع شراء أنقرة من ضراء صواريخ “إس – 400” الروسية تصميم تركيا على العمل مع شركائها الروس والإيرانيين. ولكن ربما من المفارقات أن قدرة موسكو على الحفاظ على الوفاق تعتمد أيضاً على رغبة “ترامب” الواضحة في اتخاذ خطوات عسكرية من شأنها إثارة صراع عسكري مباشر مع إيران.

كان الحفاظ على هذا الموقف أسهل بكثير قبل أن يمسك مستشار الأمن القومي “جون بولتون” ووزير الخارجية “مايك بومبيو” بسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولتنفيذ رؤيتهما كان على الرجلين مواجهة الدوافع الانعزالية لـ”ترامب”. وقد حققا نصرا تكتيكيا عندما أقنعا “ترامب” بالتراجع عن مطالبه بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكية من سوريا، وهو تحول أثار قلق موسكو بوضوح. لكن الصداع الأكبر بكثير الذي يواجهه “بوتين” الآن هو أن جهود “بومبيو” و”بولتون” لإغلاق الاقتصاد الإيراني تبدو مصممة – على الأقل من وجهة نظر موسكو وأنقرة والأهم من ذلك طهران – لإثارة مواجهة عسكرية أمريكية إيرانية يمكن أن تعقد جهود روسيا للدفع نحو حل دبلوماسي لسوريا تحت قيادتها المحسوبة بعناية. وتتفهم روسيا من إعلان “بولتون” أن حاملة الطائرات والسفن الحربية الأمريكية التي تتواجد قبالة الساحل السوري تهدف لردع إيران ولكن مع وجود “بومبيو” و”بولتون” في صنع القرار قد يصبح تفضيل “ترامب” للعمل مع روسيا على المواجهة معها شيئا من الماضي.

وجاءت هذه التطورات بعد قرار روسيا بشن غارات جوية على القوات الجهادية في إدلب في 29 أبريل/نيسان بينما كانت روسيا وإيران وتركيا تقودان محادثات سلام في أستانا. وعقدت هذه الضربات ظاهريا من جهود التوصل لحل بشأن “إدلب” وأكدت استعداد موسكو لاتخاذ إجراءات من شأنها الدفاع عن مصالحها، حتى لو كان ثمن ذلك هو الإخلال بالوفاق الهش من تركيا.

لكن مهمة إدارة العلاقات الروسية التركية تتضاءل مقارنة بالتحدي المتمثل في إدارة العلاقات الروسية الإيرانية في سياق النزاع الأمريكي الإيراني المتصاعد. وفي مواجهة التصعيد الأمريكي، أظهر قادة إيران – من الطيف السياسي برمته – قدراً كبيراً من الوحدة.ومن المؤكد أن تعيين قائد جديد للحرس الثوري الإيراني، هو “حسين سلامي”، كان إشارة إلى استعداد طهران لاستخدام القوة، وهي نقطة كررها مسؤول في الحرس الثوري الإيراني حيث أكد أن: “إيران مستعدة لسحب الزناد”.

وإذا أدى هذا التصعيد الخطابي إلى اندلاع الحرب، فمن المحتمل أن تدفع المنطقة بأسرها إلى الصراع، بدءاً من لبنان وحزب الله، وبالطبع (إسرائيل.) ويمكن أن تسبب ذلك في انهيار مشروع روسيا الذي يمتد لخمس سنوات لبناء صرح دبلوماسي يضمن مصالحها الأساسية ونفوذها.

وحاولت روسيا خلال الشهرين الماضيين الإشارة إلى استياءها المتزايد من طهران من خلال اتخاذ تدابير تهدف إلى طرد حزب الله من سوريا. وقد أدى ذلك إلى اشتباكات مسلحة بين القوات الروسية ومقاتلي الحرس الثوري الإيراني وحزب الله مثل تلك التي وقعت في 16 أبريل/نيسان في حلب والتي أدت إلى مقتل 11 شخصًا. ورغم أن هذه الاشتباكات كان لها بالتأكيد أسباب محلية، فإن استعداد القوات الروسية للاشتباك مع الحرس الثوري الإيراني يحمل رسالته الخاصة حول الخلاف الإيراني الروسي. وتشير مثل هذه الاختلافات، أيضًا إلى أن موسكو ليس لديها مصلحة في رؤية التوترات الأمريكية الإيرانية تتصاعد إلى صراع مفتوح. في الواقع، ربما تحاول موسكو في الأسابيع المقبلة إدراج نفسها كوسيط بين واشنطن وطهران. ووفقا لهذه النظرة، فإن الصراع الأمريكي الإيراني يقدم فرصة لموسكو طالما ظل محدودا ومنضبطا لكنه يحمل مخاطر كبيرة حال خروجه عن السيطرة.