لم تكن صدفة أن رئيس الحكومة المصرية هو الدكتور مصطفى مدبولي، وزير الإسكان الأسبق، ومن قبلها ورئيس الهيئة الحكومية للتخطيط العمراني، والتي كان أكبر مشاريعها في عهده وضع خطة لإعادة بناء القاهرة مجدداً لتصبح “دبي” في وادي النيل.
منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في البلاد بعد انقلاب 2013، تم البدء في تنفيذ تلك الخطط العمرانية من جسور ومدن وقنوات مياه، والتي تعد جزءً من الأجندة التنموية القومية القديمة بعد التحديث في القرن الحادي والعشرين، حيث تم الاستعانة بالمشاريع العمرانية الحديثة في الصين ودول الخليج العربي.
كي يتمكن السيسي من تنفيذ مشاريعه “الضخمة” كان يجب أن يستعين برئيس حكومة يمكن أن ينفذ رؤيته، هكذا كانت خطة السيسي، فمشاريعه تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية لانعاش اقتصاده ودعم طموحاته الكبرى في توفير فرص عمل من جهة، ولأجل الحفاظ على استقرار النظام وإبقاءه سعيداً من جهة أخرى، خاصة وأن الجيش المصري يبني كل شيء ويشرف على كافة الاستثمارات في الأساس.
منذ أربع سنوات، نفذت الحكومة المصرية توسعاً “غير ضرورياً” لقناة السويس، فيما عُرف بقناة السويس الجديدة، وذلك لتعزيز مكانة السيسي في المقام الأول والترويج لرؤيته لمصر، حيث أُنجز العمل بتطبيق ساعات عمل إضافية مع تكلفة باهظة، وذلك للالتزام بالموعد النهائي لافتتاح القناة الجديدة.
تبع ذلك خطط إنشاء عاصمة جديدة- تبعد عن القاهرة بمسافة كبيرة، بل حتى أبعد من المدن المتواجدة على أطراف صحرائها، كمدينة القاهرة الجديدة، والتي بُنيت في عهد حسني مبارك، وحتى الآن لازالت تعتبر من المدن النائية ذات كثافة سكانية قليلة بعكس ما كان مُخطط لها.
معظم هذه المدن الجديدة بُنيت على أراض انتزعها رجال الأعمال بعد مضاربات ومناقصات عقارية فاسدة في عهد مبارك، وأغلبها على أراض مملوكة للدولة، ويسيطر عليها الجيش، ليختار السيسي فيما بعد المكان الذي تركه مبارك، ووعد بإنشاء عاصمة جديدة “ذكية”، بها خدمات متقدمة ومتطورة مع قائمة طويلة من وسائل الراحة، ليصبح ذلك في منتصف الصحراء الفارغة، بالقرب من الطريق إلى “قناة السويس الجديدة”.
تم الإعلان عن مدينة السيسي الكبرى الجديدة عام 2015 في المؤتمر الاقتصادي الذي حضره عشرات المستثمرين الدوليين في منتجع شرم الشيخ المطل على البحر الأحمر، ومنذ تلك اللحظة والمشروع يعاني من أزمات في ميزانيته، والتي كان مقدر لها مبلغاً غير منطقياً بلغ 50 مليار دولار وربما أكثر، حيث كانت الإمارات العربية المتحدة أول من تراجع عن المشروع، تبعتها الصين بعد الانتهاء من المرحلة الأولى للبناء، ليصبح المسؤول الأول عنها الآن وزارة الإسكان ومهندسي الجيش.
في تصريحات للواء الجيش السابق أحمد زكي عابدين، رئيس الشركة المشرفة على بناء المدينة الجديدة، لوكالة الأنباء “رويترز”، قال “هناك اهتمام كبير بالمشروع من القيادة السياسية”، لكن قادة مصر لا يستطيعون استقطاب مليارات الدولارات باهتمامهم السياسي فقط، خاصة بعد فقد أكبر المستثمرين الأجانب من الخليج والصين، مضيفاً “نحتاج إلى تمويل ضخم والدولة ليس لديها مالاً تقدمه لي”، وبحسب رويترز، فإن حوالي 20٪ من الاستثمارات في المدينة الجديدة جاءت من الخارج، منهم حوالي 4.5 مليار دولار من الصين.
السيسي ليس الرئيس المصري الأول الذي وضع مشاريع التعمير في قائمة أولوياته، فكل رئيس مصري معاصر، رجوعاً لجمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي، والذي تولى تنفيذ مشاريع ضخمة، في إشارة منه إلى استقلال مصر ما بعد الاستعمار، حيث بُني في عهده السد العالي في أسوان، مروراً بأنور السادات، وبعدهما مبارك، والذين حاولوا تطوير مصر بصورة تشير إلى الازدهار الواضح مع دخول أمريكا في المشهد.
وبالنظر إلى جغرافيا القاهرة، نجد أنها شريط ضيق من المساحات الخضراء بطول نهر النيل، رغم ذلك تحقق هذا التقدم في الصحراء، بظهور مجموعة من المدن الجديدة التي تفتح بواباتها في انتظار أن يسكنها الناس.
ديفيد سيمز، مؤلف “تاريخين حديثيين للتنمية العمرانية في مصر”، يعرف كم عدد المشاريع العمرانية التي فشلت في مصر، بسبب سوء التخطيط والفساد، وسعي “المُخططين الحكوميين” الدائم لخلق أحلام غير واقعية، ومع هذا فإن مدينة السيسي، والمعروفة باسم العاصمة الإدارية الجديدة، تحاول أن تشق طريقها نحو النجاح، حيث أصبحت تحتضن على أراضيها أطول ناطحة سحاب في أفريقيا وهو “البرج الأيقوني”، والذي نفذه شركة “الصين للإنشاءات الهندسية”، وهي واحدة من أكبر شركات المقاولات في العالم.
وكما قال سيمز لرويترز، فإن الدعم القوي الذي قدمه الرئيس السيسي والجيش للمدينة جعلها “أكبر من أن تفشل”، بغض النظر إن كان سيعيش أحد فيها أم لا، وهو التساؤل الذي طُرح عند بناء المدن الجديدة الأخرى التي أنشأت على صحراء القاهرة قبل العاصمة الإدارية الجديدة، وأقربهم إليها مسافة هي القاهرة الجديدة والتي تبعد عنها حوالي ساعة بالسيارة.
من بين المشاريع القليلة المكتملة داخل المدينة الجديدة، افتتح السيسي في يناير/كانون الثاني الماضي مسجداً جديداً، تحدثت عنه مجلة “الإيكونوميست” عند افتتاحه قائلة “مثل المسجد الجديد، فإن عاصمة مصر الجديدة والتي لا زالت بلا اسم، كبيرة وفارغة تخضع لسيطرة محكمة ومشددة”، فلن يكون هناك المزيد من المسيرات الاحتجاجية من وسط ميدان التحرير إلى مبنى وزارة الداخلية، التي ستكون بعيدة جداً.
ميشيل دن- أحد أعضاء مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، شبه مدينة السيسي الصحراوية الجديدة بـ “منطقة مصر الخضراء”، حيث سيباشر السيسي مهام حكمه لأجل غير مسمى خلف طوق أمني كبير، محمياً من مطالب سكان البلاد البالغ عددهم 97 مليون نسمة.
المفارقة أن المشاريع التي يقيمها السيسي في الصحراء الفارغة، هي ما يريده الداعمون الماليون لمصر، فصندوق النقد الدولي لا زال يصفق للسيسي، بل قام بإعطاء حكومته قروضاً جديدة الشهر الماضي.
صندوق النقد الدولي قال عن سياسات السيسي النقدية والمالية “تلك السياسات الحكمية، مع سعر الصرف المرن، جميعها خطوات ساهمت في استقرار الاقتصاد الكلي، وعززت من قدرة مصر على مواجهة الصدمات الخارجية”، كما قال “نحن نرحب بتركيز السلطات على الإصلاحات الهيكلية، حيث يجب تعميقها لتسهيل النمو الشامل وخلق فرص عمل للجميع”.
وفي تقييمه الأخير للإصلاحات في مصر، عبر صندوق النقد الدولي عن تفاؤله لمستقبل الاقتصاد المصري ونظر إليه بنظرة وردية خاصة في مجال صناعة البناء والتشييد، والتي يقودها السيسي بميزانيات ضخمة.
يعتبر السيسي حلم كل مستثمر، فهو الرئيس الذي اتبع سياسة تقشف قاسية قاومها الرؤساء المصريون السابقون، ورفع الدعم عن سلع أساسية كالوقود والغذاء.
مسؤول تنفيذي أجنبي علق على ذلك الشهر الماضي في حوار له مع مجلة “الإيكونوميست” قائلاً أن “حكومة السيسي اتبعت برنامج صندوق النقد الدولي الإصلاحي، أو ما يسمى “التعديل الهيكلي”، بصورة كانت أشبه بالكاريكاتور”، والآن المستثمرون في الأسواق الناشئة يهللون لانخفاض العجز في الميزانية وارتفاع إجمالي الناتج المحلي.
من جهة أخرى، معظم المصريين الآن لا يستطيعون شراء زيت للطهي، أو شقة جديدة في الصحراء، بل أصبح هذا المألوف لدى الشعب المصري.
الأمر ذاته تكرر قبل سنوات، حين هنأ صندوق النقد الدولي والمستثمرون الأجانب مبارك أيضاً على “أدائه الاقتصادي” في تحويل مصر إلى سوق ناشئة، مُفضلة لدى العديد من المستثمرين في العقد الأول من القرن العشرين، متجاهلين حقيقة أن مستويات معيشة الطبقة الأكبر من الشعب المصري منخفضة للغاية وفي تراجع مستمر، وأن أي ارتفاع في إجمالي الناتج المحلي جاء نتيجة للخصخصة الفاسدة.
وكما هو الحال مع السيسي الآن فيما يخص المشاريع العمرانية ، أنفق مبارك مليارات الدولارات لبناء مشاريع في الصحراء البعيدة عن القاهرة، تاركين المدينة التي يقطنها 20 مليون نسمة تنهار.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا