مع هدوء عاصفة الانتخابات الأوروبية التي جرت قبل أكثر من أسبوع، وظهور نتائجها، بات من الواضح أن البرلمان الأوروبي سيكون أكثر انقسامًا على مدى السنوات الخمس المقبلة.

وفي 23 مايو/ أيار المنصرم، تقدم أكثر من 400 مليون ناخب في جميع الدول الـ28 الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، للتصويت لاختيار 751 عضوا في البرلمان الأوروبي.

ويبدو من النتائج الأخيرة، أن تحالف أحزاب الوسط – أقوى تجمع سياسي منذ بدء الانتخابات المباشرة قبل 40 عامًا – لن يضمن الأغلبية، وسيكون لهذا الواقع الجديد تأثير حاسم على الاتجاه السياسي للاتحاد مستقبلًا.

وبالنسبة للأحزاب التي تؤيد بقاء الاتحاد في معظم الدول الأوروبية، فقد صمدت أمام نظيراتها اليمينية المتطرفة المناهضة للاتحاد الأوروبي باستثناء إيطاليا وفرنسا.

وفي إيطاليا، حقق حزب “الرابطة” القومي فوزا واضحا بنسبة 34% من الأصوات، مقابل 17% في انتخابات العام الماضي.

وفي فرنسا، حقق حزب “التجمع” اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، وهو نسخة معاد تسميتها لحزب “الجبهة الوطنية” سيئ السمعة، فوزا بهامش طفيف في معركة مريرة مع حزب الرئيس إيمانويل ماكرون “الجمهورية إلى الأمام”، وفاز حزب لوبان بحوالي 24% من الأصوات، مقابل 22.5% تقريبًا لحزب ماكرون، المنتمي لتيار الوسط.

وفي ألمانيا، ورغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل، حل في المركز الأول كما توقعت استطلاعات الرأي، لكنه حقق نتائج سيئة للغاية مقارنة بانتخابات 2014، إذ فاز بـ28% من الأصوات مقارنة بـ 35% في الانتخابات الماضية.

واللافت في تلك الانتخابات أن “حزب الخضر” حل في المركز الثاني بـ 22% من الأصوات، في حين أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف سجل 10.5%.

وفي المملكة المتحدة، حقق حزب “بريكست” الجديد بقيادة نايجل فاراج، المركز الأول، وحلّ حزب “الديمقراطيين الأحرار” بالمركز الثاني في الانتخابات.

والبرلمان الأوروبي هو مؤسسة برلمانية منتخبة (751 نائبا) بطريقة مباشرة تتبع الاتحاد الأوروبي، ويشكل البرلمان مع مجلس الاتحاد الأوروبي، السلطة التشريعية للاتحاد، الذي يضم 28 دولة.

ويمكن من خلال الانتخابات الأخيرة رصد ثلاث ملاحظات رئيسية في هذا الصدد:

– الملاحظة الأولى: أحزاب الوسط تفقد الأغلبية في البرلمان الأوروبي

فقد كل من حزب الشعب الأوروبي (يمين وسط) وتحالف الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية (يسار وسط)، اللذان أمسكا بزمام السلطة في بروكسل لعدة عقود، فقدا أغلبيتهما مجتمعة في البرلمان الأوروبي.

وتراجع نصيب حزب الشعب الأوروبي – أكبر حزب في البرلمان – من 221 مقعدًا إلى 179 مقعدًا، في حين أن مجموعة الاشتراكيين والديمقراطيين تراجعت من 191 مقعدًا إلى 150 مقعدًا.

ومن المرجح أن تسعى هاتان المجموعتان الرئيسيتان إلى الحصول على مساعدة من تحالف الليبراليين الديمقراطيين الذي فاز بنحو 107 مقاعد.

ومن أجل قيادة البرلمان، سيتعيّن على أحزاب الوسط الدخول في تحالف مع الليبراليين. علاوة على ذلك، حقق “الخُضر” نجاحات كبيرة في جميع أنحاء أوروبا، إذ زادت المجموعة مقاعدها من 50 برلمانيًا في العام 2014 إلى حوالي 70 في الوقت الحالي.

وستؤدي هذه النتائج – بلا شك – إلى إحداث تأثير “الدومينو” على المهام العليا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك منصب جان كلود يونكر، كرئيس للمفوضية الأوروبية.

وقال مانفريد فيبر، مرشح حزب الشعب الأوروبي لرئاسة المفوضية، إن الاتحاد يواجه “مركزا متقلصا”، وذكر أن الخضر “هم الفائزون” في هذه الانتخابات وأنه سيكون مستعدًا لإجراء محادثات مع قادتهم ومع مجموعة الليبراليين الديمقراطيين حول بناء الأغلبية في البرلمان لتمرير التشريعات والموافقة على فريق المفوضية.

– الملاحظة الثانية: اليمين المتطرف

وأيضًا الأحزاب القومية المناهضة للاتحاد الأوروبي، تراجعت هي الأخرى إلى حد كبير في الانتخابات الأوروبية لعام 2019، وذلك على عكس التوقعات.

وسبق أن توقع معظم المحللين فوزًا ساحقًا لأحزاب اليمين المناهضة للاتحاد الأوروبي، وهو ما لم يتحقق، ورغم أدائها القوي في بلدان مثل بولندا وفرنسا والمجر وإيطاليا، إلا أنها فشلت في الظهور كأحزاب رائدة.

وقد نجحت التعبئة الجماهيرية القوية من قبل القوات الموالية للاتحاد الأوروبي في الانتخابات الأخيرة، في تبديد آمال قادة اليمين المتطرف.

ومع ذلك، ستعود الأحزاب المتطرفة إلى البرلمان الأوروبي بأعداد أكبر من أي وقت مضى، حيث سيشارك 169 عضوًا من الأحزاب المناهضة للاتحاد في البرلمان الجديد مقارنة بـ 155 عضوا في انتخابات 2014. وهذا يعني أنه ستكون هناك كلمة أكبر لأولئك الذين يتطلعون إلى تقليص صلاحيات الاتحاد الأوروبي.

– الملاحظة الرئيسية الثالثة: أعلى نسبة مشاركة منذ 20 عام

مع إقبال حوالي 51% من الناخبين في الانتخابات الأخيرة، فإن ذلك هو أعلى معدل منذ العام 1994.

ومنذ عام 1979، كانت نسبة المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي تتناقص طرديًا، حيث انتقلت من 62% تقريبًا في ذلك العام إلى مستوى تاريخي منخفض بلغ 42.6% عام 2014.

هذا الإقبال الكبير يضفي شرعية جيدة على البرلمان الأوروبي، الذي واجه انتقادات في كثير من الأحيان لفشله في تعبئة الناخبين.

لذلك، رحب كبار الشخصيات في الاتحاد الأوروبي بارتفاع نسبة إقبال الناخبين، ووصفوا ذلك بأنه “تعزيز لشرعية الاتحاد الأوروبي”.

ويمكن أن تعزى نسبة المشاركة العالية إلى العديد من العوامل، بما في ذلك استعداد العديد من الناخبين للوقوف في وجه الأحزاب اليمينية المتطرفة.

كما كان الناخبون الشباب قلقين بوضوح من قضايا تغير المناخ. وبالتالي، كانت أعدادهم عالية في هذه الانتخابات.

– ماذا تعني النتيجة بالنسبة للاتحاد الأوروبي؟

على عكس كل التوقعات، لم يكن هناك تحول واسع النطاق إلى أقصى اليمين، وبالمقابل، تشير النتائج أيضًا إلى الحاجة إلى التغيير في السياسة الأوروبية.

وفقدت أحزاب الوسط التقليدية عدة مقاعد لصالح الخضر والليبراليين، وكذلك الأحزاب اليمينية المتطرفة.

في حين أن هذا الوضع سوف يضع حداً لاحتكار الأحزاب الوسطية لصنع القرار في الاتحاد، فإنه يشير أيضًا أنه يتعين على وسطاء السلطة القدامى العمل مع أشخاص وأحزاب جديدة.

وستكون عملية صنع القرار داخل الاتحاد أكثر تعقيدًا من ذي قبل، فكل شيء يجب أن يمر عبر مفاوضات متعددة، وسيتعين على الأحزاب الوسطية تقديم تنازلات أكثر حول القضايا الحساسة، مثل ميزانية الاتحاد المقبلة، وضوابط الحدود وتدابير المناخ.