عندما تكون المجزرة، أي مجزرة، متوقعة، ويكتفي القادرون على وقفها أو على الضغط من أجل منع حصولها على الأقل، بالفرجة، يكون هؤلاء متورطين فيها، على الأقل أخلاقياً، بنسبة تورط من ينفذها.

مناسبة الحديث طبعاً ما تعيشه الخرطوم في هذه اللحظات والساعات من مشروع مجزرة كان العالم وصحافته يتوقعان من عسكر السودان، أو بشكل أدق من كبار جنرالاتهم، ارتكابها، منذ كشف متظاهرو هذا البلد المصرّون على حكم مدني ديمقراطي تعددي غير فاسد، عن نوايا مجلس عسكري جاهر بالممارسة، منذ إطاحة عمر البشير، برغبته في التمسك بسلطة لطالما كان يمتلكها أصلاً في عهد البشير نفسه، بنسب متفاوتة من الوضوح أو من خلف الستارة، وهو ما كان يعني، ولا يزال، أن انتفاضة السودانيين كانت موجهة ضد عسكرة الحكم بقدر ما كانت تصوب سهامها ضد فساد وقمع آلة حكم البشير وجنونه.

منذ الساعات الأولى لإطاحة العسكر، الذي سمّى نفسه “المجلس العسكري الانتقالي”، عمر البشير في 11 إبريل/نيسان 2019، وبعد الانقلابات السريعة التي حصلت داخل المجلس العسكري ذاك، للتخلص ممن عرف عنهم عدم عدائهم للإسلاميين، وبعد إخراج صلاح قوش على يد محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ظهر أن نفوذ عواصم الثورات المضادة وجد لنفسه في أوساط عسكر الخرطوم مكانةً لا ينافسهم عليها أي طرف آخر.

بسرعة البرق، وصلت المليارات السعودية والإماراتية إلى المصرف المركزي السوداني، وحطّت الطائرات الخاصة لـ”حميدتي” ولرئيسه (نظرياً)، عبد الفتاح البرهان، في القاهرة والرياض وأبو ظبي، وحصل حكام مصر والسعودية والإمارات على ما رغبوا في الحصول عليه من الجنرالات: تحية عسكرية لعبد الفتاح السيسي من البرهان، لا يسمح بها أي بروتوكول، ولا تعني إلا تأدية فروض الولاء من الثاني للأول.

مواقف سياسية مطلوبة من حكام البلد الهائل، السودان، حيال الحرب السعودية في اليمن، ومواصلة مشاركة السودان فيها، بما يعنيه ذلك سياسياً من انضواء كامل للخرطوم في محور الرياض ــ أبو ظبي.

والأهم، تجاوب كامل من البرهان و”حميدتي” مع الوصفة المصرية ــ السعودية ــ الإماراتية التي تنص على ضرورة وقف أي مفاوضات جادة مع المعارضة الحقيقية، الأكثر تمثيلاً اليوم، واسمها قوى إعلان الحرية والتغيير: فلا تشارك للحكمٍ مسموحاً به من قبل محور الثورات المضادة، لأنه سيعني، كما بات معروفاً، فتحاً لمجال التغيير الحقيقي في بلدان عربية أخرى ستتأثر بمفعول الدومينو، ولا مجال للتجاوب مع مطالب المعارضة إلا في بند الاقتصاص من شخص عمر البشير، وربما بعض أشقائه، لأن الانتقام هو أقصر الطرق إلى تهدئة غضب الناس، وهو أمر مفهوم إنسانياً، لكنه لا يبني عدالة انتقالية حقيقية، مثلما أظهرته تجارب التاريخ البعيد والقريب.

وعندما شعر حميدتي والبرهان ورفاقهما بأن رسائل الطمأنة إلى رعاتهم في الرياض وأبو ظبي والقاهرة لم تكن كافية، كان عليهم استلال سيف إغلاق مكتب قناة “الجزيرة” وحظر عملها، في رسالة سياسية بحتة، ذلك أنه لم تُعرف عن “الجزيرة” في الحدث السوداني بعد إطاحة البشير أو قبله نبرة عالية ضد العسكر، الذين ظلت تستضيفهم وتخصص لهم حيزاً من هوائها قد يكون أوسع من ذلك المحجوز لقوى إعلان الحرية والتغيير، وهو ما يلوم كثيرون “الجزيرة” عليه.

إنّ تمسك المعارضة بورقة اعتصام مقر القوات المسلحة، السلمي جداً مثلما أظهره الشهران الماضيان منذ 6 إبريل الماضي، للضغط في سبيل التوصل إلى حلّ يرضي المنتفضين، ويبدأ بتسليم العسكر السلطة إلى المدنيين، أو التشارك فيها، لم يعبر إلا عن حكمة السودانيين وإدراكهم أنهم من دون تلك الورقة، ستطوى صفحة انتفاضتهم المستمرة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسيصبح “حميدتي” حاكماً منتحلاً صفة ثورتهم، تماماً مثلما فعل عبد الفتاح السيسي عندما نصّب نفسه حاكماً باسم 25 يناير و30 يونيو معاً. ولما وجد من يقول له، بإصرار، إنه سارق ومنتحل شخصية، لم يكن أمامه سوى ارتكاب مجزرتي رابعة والنهضة.

لم تنفع التهديدات المتكررة بـ”تنظيف” الخرطوم من اعتصام مقر القوات المسلحة. ولا كانت مجدية تهديدات حميدتي وصحبه لشخصيات قوى إعلان الحرية والتغيير وأحزابها. ولا نفعت طبعاً محاولات اختراع معارضة بديلة إسلامية أو علمانية، ولا الأكاذيب التي حيكت حول اعتصام الخرطوم بأنه تحول إلى وكر للعصابات والفوضى الأمنية. صبر العسكر بضعة أيام، وكان يسرّب عبر قنوات الإعلام السعودي ــ الإماراتي، تقوده “العربية”، تهديدات منسوبة إلى “مصادر” (كلمة يمكن أن تكون سحرية في اختلاق الأكاذيب في الصحافة المتهالكة)، بقرب موعد إزالة الاعتصام لإجراء انتخابات مبكرة تضفي الشرعية على حكام الأمر الواقع، أي جنرالات المجلس العسكري الانتقالي الحاليين، أو من يفضلهم محور الرياض ــ أبو ظبي ــ القاهرة.

في هذه الدقائق، تُرتكب جريمة منظمة في الخرطوم. تبث لقطاتها مباشرة على الهواء تماماً كما شاهد العالم جرائم جماعية أخرى في القاهرة وصنعاء وحلب وحمص. مرتكبوها ليسوا مجرد عدد من الجنرالات في الخرطوم شعروا بفائض قوة سمح لهم بافتعال المحظور وإراقة الدماء، بل مهندسها الحقيقي يجلس في مكان آخر، هو نفسه المكان الذي كان ولا يزال يقيم فيه من أمر و/أو سمح بإلغاء أي أثر للانتفاضات العربية. فالمطلوب، كما “بشرتنا” يوم الجريمة (الإثنين) قناة الثورات المضادة، “العربية” السعودية المقيمة في أبو ظبي، هو “تنظيف ساحة الاعتصام بعد خروج المعتصمين وعدم السماح بعودتهم”.