بلغ التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا ذروته؛ في ظل إصرار أنقرة على إتمام صفقة منظومة “إس-400” الدفاعية الروسية، رغم الضغوط الأمريكية والتهديد بطرد أنقرة نهائياً من برنامج صناعة طائرات “إف-35” الأحدث على مستوى العالم.

وكشفت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، يوم السبت (8 يونيو 2019)، عن خطة جديدة لاستبعاد تركيا من برنامج “إف-35″، مع الوقف الفوري لتدريب الطيارين الأتراك على هذه المقاتلات؛ نظراً إلى شراء أنقرة صواريخ “إس-400” الروسية، التي من المقرر أن تصل إلى الأراضي التركية في يوليو من العام الجاري.

وقالت وكالة “رويترز” إنها اطلعت الجمعة الماضي (7 يونيو 2019)، على خطاب أرسله باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي، إلى نظيره التركي، وضَّح فيه خطوات استبعاد تركيا من البرنامج، إلا إذا غيَّرت من نهجها.

خطة البيت الأبيض لاستبعاد تركيا من البرنامج بالكامل حذر منها سياسيون ومختصون في وقت سابق، وأكدت تحذيراتهم أن مثل هذه الخطوة تؤدي إلى وقف إنتاج الطائرة فعلياً، أو إعاقة إنتاجها نحو عامين على أقل تقدير، لكون أنقرة شريكاً أساسياً في المشروع وعنصراً رئيساً في صناعة أجزاء مهمة بجسم الطائرة.

وزير الدفاع الأمريكي السابق، جيمس ماتيس، أبرز المعارضين لهذه الخطوة، حيث خاطب الكونغرس في 7 يوليو 2018، برسالة عارض فيها محاولات إدارة الرئيس دونالد ترامب وقف بيع تركيا “إف-35″، كما حذّر من اتخاذ مثل هذه الخطوة، مشدداً على أنها ستثير أزمة في سلسلة التوريد وسترفع سعر المقاتلات.

وقال ماتيس في رسالته: إنَّ “وقف تسليم تركيا مقاتلات إف-35 قد يدفعها إلى وقف تزويد شركة لوكهيد مارتن بقِطع الغيار، وهو ما سيوقف إنتاج المقاتلات، أو سيؤخر الإنتاج، وسيستغرق تعديل الوضع وتوفير إمدادات القطع التي تُصنّعها تركيا من 18 إلى 24 شهراً”.

ويشارك في برنامج صناعة الطائرة الحديثة تحالف دولي مكون من: تركيا والولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وهولندا وكندا وأستراليا والدنمارك والنرويج.

وتشارك أنقرة في برنامج “إف-35” منذ انطلاقه عام 1999، وأدت الصناعات الدفاعية التركية دوراً فاعلاً في إنتاج تلك الطائرات، كما تشارك 10 شركات تركية للصناعات الدفاعية في صناعة أجزاء مهمة من جسمها، وتتعلق بالجزء الأوسط من الطائرة ومحركها وقمرة القيادة وإطلاق الصواريخ، بالإضافة إلى الأنظمة الكهربائية والإلكترونية الخاصة بها.

ورغم أهمية مشاركة أنقرة في صناعة هذه الأنظمة الحساسة، فإن خطاب شاناهان تطرَّق صراحة إلى أن الإدارة الأمريكية لم تعد بحاجة للحصول على مهارات الشركات التركية.

وتقول وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” إن الشركات التركية تنتج نحو 937 مكوناً في “إف-35”. وتعتزم الولايات المتحدة نقل إنتاج تلك المكونات إلى مكانٍ آخر؛ بما يُنهي دور تركيا في التصنيع بحلول أوائل العام المقبل.

تهديد وتراجع

سعيد الحاج، المتخصص بالشأن التركي، ذكر أن تركيا تعتبر صفقة “إس-400” مساراً استراتيجياً لا يمكنها العدول عنه أو التأخر فيه، حيث دعت موسكو عدة مرات إلى تبكير موعد التسليم، وهو ما استجابت له روسيا.

وعن أهمية الصفقة، يقول الحاج في مقال نشره موقع “TRT التركية”: “الأمر متعلق بافتقار تركيا إلى نظام دفاع صاروخي يحميها من أي هجمات جوية أو صاروخية قد تتعرض لها، وتعيش في منطقة شديدة السيولة ومتعددة المخاطر، وتقود مؤخراً عمليات عسكرية خارج الحدود، بل تعلن عن إتمام استعداداتها لعملية جديدة شرقي نهر الفرات في سوريا”.

ويشير إلى أن “تركيا عانت بسبب شركائها الأطلسيين (أعضاء الناتو) مرتين؛ مرة حين سحبوا بطاريات صواريخ الباتريوت من أراضيها عام 2015، بزعم انتهاء الخطر عليها، على غير رغبة منها، والثانية حين ماطلوا كثيراً، وحتى اليوم، في بيعها أي منظومة دفاعية رغم أنها حاولت كثيراً مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية”.

وسرد الحاج جملة من الأسباب تؤكد عدم تراجع أنقرة عن الصفقة مع روسيا، مع إدراك تركيا أن التهديدات الأمريكية قد تتحول إلى واقع.

ويشير المتخصص في الشأن التركي إلى المراحل التي قطعتها أنقرة مع موسكو لإتمام الصفقة، والخسائر الاقتصادية المحتملة، وضمن ذلك الدفعة الأولى من قيمة الصفقة وعقوبات جزائية مفترضة في حال تراجع أحد الأطراف.

ويلفت الحاج إلى أن أنقرة ترغب في عدم توتير العلاقات مع موسكو، في ظل تعاونهما بأكثر من صفقة عملاقة مثل: محطة أك كويو للطاقة النووية، ومشروع السيل التركي للغاز الطبيعي، فضلاً عن المرحلة الدقيقة والحساسة التي تمر بها الأزمة السورية حالياً.

ويرى الحاج أن تركيا حريصة على سمعتها بالساحة الدولية، خصوصاً في مجال التصنيع الدفاعي وصفقات الأسلحة، التي دخلت سوقها مؤخراً كبائع ومصدِّر وليس فقط كمستورد.

ومن الأسباب التي ذكرها الحاج، عدم ثقة أنقرة بالإدارة الأمريكية، ونظرتها إلى عرض صواريخ باتريوت على أنه مناورة لإثنائها عن الصفقة الروسية دون ضمانات حقيقية، فضلاً عن حرصها على عدم إهدار الوقت، والحصول على المنظومة وتفعيلها في أسرع وقت ممكن.

ويشير إلى أن التجارب التركية في الأزمة السورية أثبتت أن وعود ترامب وتصريحاته لا تجد طريقها دوماً للتنفيذ، بسبب تصادمها مع خطط ورغبات المؤسسات الأمريكية، خصوصاً “البنتاغون”.

لهذه الأسباب المهمة وغيرها، يقول الحاج، “من الصعب توقُّع تراجع أنقرة عن الصفقة مع روسيا، ويبدو سيناريو تأجيل التسلُّم غير مرجَّح وإن بقي قائماً، وكذلك من غير المرجح أن تُحوِّل أنقرة الأمر إلى أزمة مع الولايات المتحدة؛ إذ تدرك أنقرة بالتأكيد مخاطر أي أزمة إضافية مع واشنطن”.

وأكد أن استمرار الضغوط الأمريكية قد يأتي بنتائج عكسية، أي دفع أنقرة أكثر فأكثر إلى حضن الدب الروسي، ولعل أحد مؤشرات ذلك المهمة حديثُ وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، عن احتمال إبرام بلاده صفقة “إس-400” ثانية في حال لم تتم صفقة صواريخ الباتريوت مع الولايات المتحدة، وتلقفت موسكو ذلك التصريح بالاستعداد والترحاب.


أسباب سياسية

وفي هذا الشأن، يرى المحلل السياسي والمختص بالشأن التركي علي باكير، أن أسباباً سياسية وراء الخشية الأمريكية من مسألة شراء المنظومة الروسية، لكونها تقرب أنقرة من موسكو، وهو ما لا تريده أمريكا، بل يثير مخاوفها.

وعن تأثير الصفقة الروسية التركية والوسائل الأمريكية لمنع تركيا من امتلاك المنظومة، قال باكير في مقال تحليلي مطول: إن “واشنطن تحاول ليَّ ذراع تركيا من خلال الوسائل المتاحة سواء بالتهديد بحجب مقاتلات إف-35 عنها، أو بالتهديد بتقليص التعاون الدفاعي في حال حصلت أنقرة على المنظومة الدفاعية الروسية، أو حتى التهديد بفرض عقوبات على تركيا”.

وأشار إلى أن واشنطن بسياستها السلبية تجاه تركيا أسهمت في دفع أنقرة باتجاه روسيا، في وقت أعطى فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لبدء التفاوض لإنهاء هذه الصفقة، قائلاً: “ربما بعد إتمام صفقة صواريخ إس-400 الحالية سنبدأ مباحثات صواريخ إس-500”.


تحذير ومخاوف أمريكية

ومع تصاعد التوتر بين واشنطن وأنقرة، حذَّر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ تركيا من عقوبات في حالة شرائها منظومة “إس-400″، بموجب تشريع يدعو إلى فرض عقوبات على الدول التي تحصل على معدات عسكرية من روسيا، بالمقابل تعتبر أنقرة أن قرار شراء المنظومة الروسية “لم يكن خياراً، بل ضرورة”.

ومنذ إعلان أنقرة نيتها شراء “إس-400” الروسية عام 2017، شهدت العلاقات بين أمريكا وتركيا، العضوتين في حلف شمال الأطلسي، توترات لا تزال مستمرة، رغم ترحيب الأمين العام للحلف، ينس شتولتنبرغ، بالصفقة بين أنقرة وموسكو، وقال إن “دول الناتو” يمكن أن تعمل بطريقة مشتركة مع الأنظمة المختلفة للصواريخ التي تعتبر مهمة للحلف.

إذ تعارض واشنطن بشدّةٍ حيازة تركيا المنظومة الروسية، وتُخيِّرها بين هذا النظام الروسي ومقاتلات “إف-35” الأمريكية، في حين تقول أنقرة إن واشنطن تماطل في تسليمها “إف-35″؛ وهو ما دفعها إلى اللجوء للخيار الروسي.

وتخشى الولايات المتحدة من إمكانية استخدام تكنولوجيا منظومة “إس-400” في جمع بيانات تقنية عن الطائرات العسكرية التابعة لحلف الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا، وهو ما قد يسمح بوصول روسيا أيضاً إلى تلك البيانات.

في حين ينتقد المسؤولون الأتراك الولايات المتحدة بالقول إنها تغض الطرف عن امتلاك اليونان وبلغاريا وسلوفاكيا (أعضاء في حلف الناتو) صواريخ “إس-300” الروسية، في حين تحذر تركيا من شراء منظومة “إس-400”.

وفي حال نفّذت تركيا اتفاقها مع موسكو يُمكن أن تُعاقَب بموجب قانون أمريكي يدعى “CAATSA”، وينصّ على فرض عقوبات اقتصادية على أي دولة توقّع عقود تسليح مع شركات روسية.

والقانون أقره الكونغرس الأمريكي العام الماضي، ويُعرف بـ”قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، وهو نظام عقوبات مطبَّق على مؤسسات ومنظمات الدفاع الروسية والاستخبارات والبلدان التي تعقد صفقات مع موسكو.

خيارات تركيا لمواجهة قرار الإدارة الأمريكية

ورغم التلميحات الأمريكية بطرد أنقرة من البرنامج منذ أشهر، أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن بلاده تواصل صناعة أجزاء من الطائرة على أراضيها، وقال إن مشروع الطائرة مشترك بين تحالف دولي، وليس مشروعاً يمكن أن يعلن طرف ما، انسحابه منه.

مع التصعيد الأمريكي، يبدو أن تركيا تتجه نحو القضاء الدولي لخوض معركة قانونية مع البيت الأبيض، باعتبارها شريكاً أساسياً بالمشروع وأسهمت في مراحل التطوير بمبالغ مالية كبيرة، إلى جانب دفعها مليارات الدولارات، وبالفعل تسلمت أنقرة أول مجموعة من هذه الطائرات.

المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، أكد أنه “في حالة اتخاذ أي خطوة باتجاه منع أو تأخير تسليم الطائرة إلى تركيا، فأول طريق ستسلكه تركيا هو القانون والتحكيم الدولي”.

وأضاف كالن في تصريحات صحفية، بوقت سابق: “ينبغي للجميع معرفة أن تركيا ليست دولة تتم التضحية بها بسهولة، سواء في مسألة مقاتلات إف-35 أو بمواضيع أخرى، فتركيا ليست بلا بدائل”.

وفي أكثر المؤشرات دلالة على أن الخلاف بين واشنطن وأنقرة وصل إلى مراحل حرجة، تضمن خطاب شاناهان عدم تدريب الطيارين الأتراك على مقاتلات إف-35، حيث كان من المقرر تدريب 34 طياراً آخرين على تلك المقاتلات هذا العام، حسبما جاء بالخطاب الذي نشرته “رويترز”.

ويبدو من خلال تحذير شاناهان أن الإدارة الأمريكية بصدد توسيع العقوبات على تركيا، بالإضافة إلى الجانبين الأمني والعسكري، والجانب الاقتصادي، حيث خاطب المسؤول الأمريكي السلطات التركية بالقول: “ما يزال لديكم الخيار لتغيير المسار المتعلق بأنظمة إس-400 الروسية”.

ولم يستبعد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، فرض الولايات المتحدة عقوبات على تركيا، لكنه أشار أيضاً إلى أن هناك “تحسناً في المحادثات مع الولايات المتحدة بشأن شراء المقاتلات الأمريكية إف-35”.

وقال أكار للصحفيين، الثلاثاء 4 يونيو 2019: إن “تركيا تنفذ التزاماتها في مشروع إف-35، وإن أنقرة تتوقع أن يستمر البرنامج كما هو مخطط له.. في محادثاتنا مع الولايات المتحدة نرى تخفيفاً عاماً وتقارباً في قضايا بينها، شرقي الفرات وإف-35 وباتريوت”.

وفي هذا الخصوص، استبعد السفير الأمريكي السابق لدى تركيا، روبيرت بيرسون، حدوث أي توتر سياسي في العلاقات بين أنقرة وواشنطن نتيجة لصفقة الصواريخ الروسية، مشدداً على حرص بلاده على عدم إضعاف العلاقات مع تركيا، خاصة أنها حليف لها ضمن الناتو.

ورغم الانطباعات التركية الإيجابية أحياناً عند لقاء المسؤولين الأمريكيين، فإن التهديدات الأمريكية لتركيا هذه المرة تبدو غير مسبوقة، ويرجع معظمها إلى تأثيرات سلبية متوقَّعة على الاقتصاد التركي الذي شهد هزة في الصيف الماضي، إثر تصريحات ترامب وعقوباته، على هامش محاكمة القس أندرو برونسون، بحسب ما يقوله سعيد الحاج الخبير في الشأن التركي.

يعتقد خبراء أمريكيون أن إدارة ترامب وجهت من خلال استبعاد تركيا، ضربة كبيرة للمشروع الأضخم تمويلاً في تاريخ وزارة الدفاع الأمريكية، ففي حالة استبعاد أنقرة نهائياً من البرنامج يتكبد الشركاء الآخرون في صناعة الطائرة خسائر بمليارات الدولارات، فضلاً عن زيادة الأعباء المالية عليهم، إلى جانب خسارة بيع تركيا أكثر من 100 طائرة بقيمة تتجاوز تسعة مليارات دولار، وأيضاً تعرُّض البرنامج لانتكاسة كبيرة، بفعل توقف الشركات التركية عن تزويده بالقِطع التي تُصنِّعها هي من الطائرة، مع إمكانية توقف البرنامج أشهراً طويلة إلى حين تأمين قِطع بديلة.

مع تصاعد التوتر، من المقرر أن يعقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الأمريكي اجتماعاً، إما في تركيا وإما على هامش قمة مجموعة العشرين التي ستُعقد في اليابان، يوم 28 يوليو 2019، بحسب ما نقلته وكالة “رويترز” عن مسؤول تركي رفيع.