الدروس المستفادة من الثورة التي فشلت..
بعد مرور ثمان سنوات على الربيع العربي الذي شهده العالم في أوائل 2011، تجددت الاحتجاجات الشعبية مرة أخرى لتجتاح الشرق الأوسط موجة احتجاجية جديدة في أبريل/نيسان الماضي أدت إلى الإطاحة باثنين من القادة الديكتاتوريين في المنطقة، لم يستطيعا الصمود أمام الحراكات الشعبية في الجزائر والسودان، وهما الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي تنحى عن منصبه في 02 أبريل/نيسان، والرئيس السوداني عمر البشير، والذي تم عزله من السلطة في 11 أبريل/نيسان.
الانتفاضات التي شهدتها السودان والجزائر تتشابه بصورة واضحة مع الثورة المصرية في 2011، والتي أدت إلى تنحي الرئيس حسني مبارك، ففي الحالتين وقفت الحركات الشبابية وأحزاب المعارضة والنقابات العمالية ومنظمات حقوق الإنسان صفاً واحداً ضد الأنظمة الاستبدادية والقمعية، حيث توحدت مطالبهم في دعوات واضحة لإرساء الديموقراطية والسعي نحو الإصلاح السياسي ضد البطالة والتضخم والممارسات القمعية لأجهزة الشرطة.
ولكن، وكما حدث في مصر، تكرر الأمر في السودان والجزائر حيث تدخل القادة العسكريين لعزل قادة الأنظمة المستبدين وإعفائهم من السلطة، لينصبوا أنفسهم فيما بعد حراساً على تلك الثورات متحكمين في التحولات التي تشهدها بلدانهم بعد الثورة.
أوجه التشابه السابق ذكرها تثير القلق إزاء مصير تلك الثورات في حالة مقارنتها بالحال التي آلت عليه مصر الآن، فبعد الإطاحة بمبارك أدى التحول السيء الذي اتخذه المسار الديموقراطي إلى خلق الخلاف بين الثوار في مصر، لتمهد انقساماتهم الطريق أمام انقلاب 2013، أو ما يمكن تسميته بالثورة المضادة، والتي أعادت الحكم العسكري للبلاد مرة أخرى،
مهندس الانقلاب- عبد الفتاح السيسي، بعد إعلان نفسه رئيساً، اتخذ كافة السبل لإرساء قواعد نظام أكثر عنفاً وقمعاً من الذي تم الإطاحة به في 2011.
مع ذلك، فإن التجربة الفاشلة للديموقراطية في مصر يمكن أن تمنح الثوار الجدد في السودان والجزائر دروساً للاستفادة منها للمساعدة في الحفاظ على المسار الصحيح للتحولات الديموقراطية التي يسعون إليها.
القوة في الشارع
أحد أهم الدروس المستفادة من الثورة المصرية هو أن الاحتجاجات في الشوارع لها القدرة على التأثير في قرارات الجيش.
بعد أن أجبر القادة العسكريون في مصر الرئيس مبارك على التنحي وقاموا بالاستيلاء على السلطة والسيطرة عليها وعلى الحكومة، واجه المتظاهرون “المدنيون” الذين احتشدوا بالآلاف في ميدان التحرير في القاهرة حيرة كبيرة، هل يتركون الساحة أم يواصلوا الاحتجاج والاحتشاد في الشوارع؟
كان هذا التساؤل المطروح لأشهر، إلا أن شباب الثورة الذين قادوا حركة إسقاط مبارك سرعان ما توصلوا لأن الاستمرار في الشارع هو الحل خصوصاً بعد المفاوضات التي تمت بينهم وبين الجيش حول شروط انتقال السلطة وإنشاء مؤسسات ديموقراطية جديدة، فقاموا بإعادة تعبئة الشارع مرة أخرى في أحداث كثيرة، أبرزها أحداث محمد محمود، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، والتي أدت في النهاية إلى انتصار الإرادة الشعبية التي رفضت وثيقة “المبادئ فوق الدستورية” التي أعلن عنها الجيش وكان من شأنها أن تعطي له بعض الصلاحيات والامتيازات الخاصة قبل عملية إعادة صياغة الدستور.
وفيما يبدو أن النشطاء في السودان والجزائر يتبعون الاستراتيجية ذاتها في مساعيهم لتحقيق أهدافهم ومطالبهم. ففي الخرطوم على سبيل المثال، حشدت الحركات المعارضة لاعتصام كبير أمام مقر القيادة في العاصمة، والذي لم يستطع الجيش فضه إلا بالعنف.
في المقابل لم يتراجع المتظاهرون، بل قاموا بإغلاق الطرق في كافة أرجاء المدينة، كما تم الدعوة إلى عصيان مدني وإضراب عام في البلاد بأكملها، معلنين أنه لن ينتهي حتى يقوم الجيش بتشكيل حكومة مدنية، وفي الواقع، فإنه لولا استمرار الثوار والمتظاهرين في الشوارع لكانت مساع الجيش في فرض سيطرة قاداته على الحكومة الانتقالية قد كللت بالنجاح.
أما في الجزائر، فلازال المتظاهرون يخرجون بصورة أسبوعية كل جمعة منذ سقوط بوتفليقة، بهدف الحفاظ على مطالبهم، وعلى الرغم من محاولات الجيش المستمرة في حظر المظاهرات وقمع الثوار، فإن استمرار تلك الاحتجاجات أدى لفرض عدة مطالب لا يبدو أن الثوار سيتنازلون عنها، أبرزها تأجيل الانتخابات الرئاسية، والتي من المقرر اجراؤها في أوائل يوليو/تموز القادم، وتطهير الحكومة والمؤسسات من أي رمز من رموز نظام بوتفليقة.
خلاصة القول فإن تحقيق هذه المطالب وإجبار القادة العسكريون في كلا البلدين على التخلي عن السلطة السياسية للمدنيين متوقف على مدى فعالية الحراك الشعبي وقدرة الحركات المعارضة على تعبئة الشارع.
حافظوا عليها باتحادكم
درس آخر من الدروس التي يجب الاستفادة بها من الثورة المصرية، هو أنه من المهم أن تظل القوى الثورية متحدة في صف واحد.
بمراجعة ما تم في الثورة المصرية، نجد أن أحد الأسباب الرئيسية وراء تمكن الجيش المصري من العودة إلى السلطة هو الانشقاقات التي دبت في صفوف القوى الثورية والتي بدأت منذ أواخر عام 2012، حين انقسمت القوى الثورية إلى فئتين متضادتين في كل شيء، وهما التيار العلماني ومؤيدوه من ائتلاف الثورة والتيار الإسلامي الذي يمثل جماعة الإخوان المسلمين وحكومة الرئيس محمد مرسي، وفي تلك الأثناء انتصرت كل فئة لرؤاها ومصالحها السياسية الخاصة وفضلتها على مصالح وأهداف الثورة.
إن التحالفات والقوى السياسية والثورية التي خرجت إلى الشوارع في الجزائر والسودان مختلفون تماماً في الرؤى والأفكار كما كان في مصر، كما أنهم يفتقرون إلى العمود الفقري التنظيمي القوي الذي يمكن الالتفاف حوله، ولعل اتحادهم هو الضمان الوحيد للحفاظ على تماسكهم وتحقيق الأهداف المشتركة بينهم، كإقامة حكم مدني وبناء مؤسسات ديموقراطية، ومحاسبة مسؤولي النظام القديم، وهو الضمان الوحيد أيضاً لعبور المهام الأصعب بسلام، والتي سيواجهون فيها انقساماً لا محالة، كصياغة الدساتير الجديدة والانتخابات الرئاسية.
الثوار في السودان أظهروا حتى الآن قدرة رائعة على التحدث بصوت واحد، حيث قاموا بتشكيل جبهة موحدة، قاموا بتسميتها “التحالف من أجل الحرية والتغيير”، الذي قدم مجموعة واضحة من المطالب كما قدم برنامجاً للإصلاح.
إن الدور التنسيقي الرئيسي للتحالف يقع على عاتق الجمعية المهنية السودانية، وهي تحالف مؤلف من أطباء ومهندسين ومحامين ومعلمين وحركات شبابية مثل “قرفنا”، كما قام بإجراء مفاوضات مع المجلس العسكري الانتقالي، أصر فيها على طلب موحد من الجميع وهو أن أي حكومة انتقالية يجب أن يكون للمدنيين فيها النصيب الأكبر.
ومع ذلك، فإن بوادر الانشقاقات بدأت في الظهور على الحراك السوداني، ويعود ذلك إلى التنوع العرقي والديني الكبيرين في السودان.
على سبيل المثال، اشتملت الفئات التي خرجت البشير على مجموعات متمردة في دارفور وجنوب كردفان، والتي تتخذ موقفاً من الجيش أكثر حدة من بقية الفئات، حيث تعرضت تلك الجماعات لأعمال وحشية في عهد البشير من قبل الجيش السوداني وهو ما يجعلها تطلب محاكمة قاداته وليس فقط تنحيهم عن المشهد.
من جهة أخرى، فإن حزب الأمة الوطني المحافظ نسبياً، والذي حكم السودان خلال الفترة من 1985 إلى 1989 وكان من أبرز المؤيدين للاحتجاجات التي خرجت ضد البشير في يناير/كانون الثاني، لا يتخذ الموقف المعارض ذاته من حكم القادة العسكريين، ولعل هذا ما دفع زعيمه صادق المهدي برفض دعوة الجمعية المهنية السودانية إلى إضراب عام.
الوضع في الجزائر مختلف قليلاً، فمعظم أحزاب المعارضة الرئيسية في البلاد بمصداقية تذكر بسبب سنوات من التعاون والتآزر مع نظام بوتفليقة، بل إن المشاركين الرئيسيين في الاحتجاجات التي خرجت على الحكومة كانوا من النقابات العمالية ومنظمات حقوق الإنسان والحركات الشبابية المعارضة، والتي لم تضطلع أي منها بدور قيادي في الثورة، بل على العكس اقترح البعض أن يكون المحامي الحقوقي – ذو السمعة الطيبة- مصطفى بوشاشي، قائداً في الحكومة الانتقالية، إلا أنه اعتذر عن المنصب موضحاً أن “الشباب الجزائري يجب أن ينظموا أنفسهم”.
ومع ذلك فإن المعارضة في الجزائر تتفق على أن عملية الانتقال العادل يجب أن تشمل تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة تشرف على الانتخابات البرلمانية، والتي ستكتب بعد ذلك دستوراً جديداً، وكالعادة اعترت النقاشات والمفاوضات مخاوف من دور التيار الإسلامي في المرحلة الجديدة.
في النهاية، إذا كانت هذه الائتلافات الثورية المتنوعة لديها أي أمل في أن تظل موحدة، فإنها تحتاج إلى التركيز على تحقيق الأهداف التي جمعتها في المقام الأول، وهي إنشاء مؤسسات ديمقراطية دائمة وإرساء حكم مدني
أصدقاء “الجهات العليا”
يجب على الثوار في الجزائر والسودان أن يعترفوا بأهمية الدعم الأجنبي لحراكهم، ففي مصر، بعد عام 2011، سرعان ما تبين للمصريين أن ثورتهم لن تترك بالكامل في أيديهم. الولايات المتحدة مثلاً-حليف مصر الأكثر أهمية، ترددت كثيراً في دعم الثورة، على الرغم من أنها في النهاية أيدت -بحذر- الانتقال إلى الحكم الديموقراطي، ورغم ذلك، لم ينجح التيار العلماني ولا الإسلامي في الفوز باحترام الدبلوماسيين الأمريكيين، ومن المرجح أن ازدواجية واشنطن تجاه حكومة مرسي هي ما سهّلت انقلاب السيسي.
في الوقت ذاته، عملت القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- التي عارضت بقوة جماعة الإخوان المسلمين، على منع الديمقراطية من الوصول إلى جذورها، وذلك من خلال توفير الموارد والدعم الدبلوماسي للجماعات والحركات المعادية للثورة داخل مصر.
من ناحية أخرى، الوضع في الجزائر والسودان أسهل مما كان عليه في مصر، فالولايات المتحدة ليس لديها مصالح طويلة الأجل في تلك البلدان، كما أنها لن تضرر بصورة كبيرة في حال انتقلت إلى المسار الديموقراطي.
في الجزائر مثلاً، تنازلت واشنطن عن القيادة الدبلوماسية لفرنسا، والتي تتبنى رؤية غير متزنة أو واضحة تجاه التحولات الجديدة التي تشهدها الجزائر، إلا أنها قلقة أن يتم تأطير تدخلاتها باعتبارها تدخلًا استعماريًا جديدًا.
وفي السودان، كانت الولايات المتحدة معارضة لنظام البشير لفترة طويلة، على الرغم من أن واشنطن حاولت إدارة هذا الموقف في السنوات الأخيرة، ومع ذلك، فإن رحيل البشير لن يكون الشيء الذي تأسف عليه أمريكا.
لدى الجزائر والسودان أيضاً مخاوف حول مواقف ونوايا القوى الإقليمية، والتي ستدخل بالطبع، من جهة فإن مصر تحاول استغلال موقعها كرئيس للاتحاد الإفريقي لتجنب وصف إقالة البشير بـ “الانقلاب” – وهو توصيف يتطلب من المجلس العسكري تسليم السلطة للمدنيين أو المخاطرة بتعليق عضوية الاتحاد الأفريقي في السودان، ومن الناحية الأخرى وبعد أيام فقط من تنحي البشير، تعهدت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بتقديم 3 مليارات دولار كمساعدة للحكومة العسكرية الانتقالية في السودان، وهي مساعدات ذات مغزى بالطبع.
يمكن للنشطاء السودانيين والجزائريين متابعة مسارين أمام القوى الأجنبية، الأول هو مقاومة توغلات دول المنطقة مثل مصر والسعودية والإمارات، التي لها مصالح واضحة في منع إقامة مسارات ديموقراطية حقيقية في الشرق الأوسط، ولعل هذا ما حدث في السودان بالفعل، حيث خرج المتظاهرون في السودان إلى الشوارع معارضين لحزم المساعدات السعودية والإماراتية ونددوا بالتدخل الأجنبي في المرحلة الانتقالية.
المسار الثاني، أنه يجب على النشطاء تنمية العلاقات مع القوى الأجنبية المتعاطفة والمؤيدة لمطالبهم وحراكهم، كالاتحاد الأفريقي مثلاً، والذي كان داعمًا لإرساء الديمقراطية في دول أخرى في القارة منذ التسعينيات؛ وكالاتحاد الأوروبي، والذي دعم التحول الديموقراطي الناجح في تونس بعد 2011، بل وحتى كالولايات المتحدة الأمريكية.
وبالرجوع للواقع المصري، ومع اندلاع الثورات في الجزائر والسودان، قام عدد من النشطاء المصريين والذين كان لهم دوراً كبيراً في الحراك ضد مبارك في 2011، بالتحدث عن الثورات الجديدة بمزيج من التفاؤل والندم، محاولين إسداء النصح والمشورة للثوار في البلدين آملين أن يأخذوا حذرهم كي لا يقعوا في ذات الأخطاء.
ربما الجزم بنجاح تلك الثورات أو فشلها شيء سابق لأوانه، إلا أنه من المؤكد أن محاولة عدم تكرار أخطاء الثورة المصرية والاستفادة من دروسها قد يساعد الثوار في سلوك المسار الصحيح الذي لن يودي ببلدانهم إلى مصير مماثل كالتي آلت إليه مصر.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا