اهتز المجتمع الفلسطيني مرة جديدة على وقع تسريب أملاك تابعة للكنيسة إلى الاحتلال، بعدما حسمت محكمة إسرائيلية لصالح جمعيات استيطانية ملف الاستيلاء على فندقين ضخمين ومبنى آخر في البلدة القديمة من القدس المحتلة، بعد صراع قضائي لنحو 14 عاماً، ليفتح ذلك صفحة جديدة في ملف تهويد البلدة القديمة المستهدفة من الاحتلال، خصوصاً أن للعقارات المسربة أهمية كبيرة بسبب وجودها على مدخل البلدة، إضافة إلى أن هذه العمليات تؤدي إلى طرد وتهجير المسيحيين من المدينة، فيما تُوجّه اتهامات للسلطة الفلسطينية بالتقاعس عن مكافحة مسربي العقارات.
وحسمت المحكمة الإسرائيلية العليا، أول من أمس الإثنين، ملف الاستيلاء على فندقي “إمبريال” و”بترا” وقصر المعظمية، لصالح جمعيات استيطانية، بعدما تم تسريبها خلال السنوات الماضية من أملاك الكنيسة الأرثوذكسية، الأمر الذي أثار مخاوف فلسطينية من تداعيات تلك التسريبات على البلدة القديمة والمسجد الأقصى. ويقع الفندقان في ساحة عمر بن الخطاب في منطقة باب الخليل، أحد الأبواب الرئيسية للبلدة القديمة من القدس؛ وفي حي باب حطة إلى الشمال من المسجد الأقصى يقع المبنى الثالث المعروف بقصر المعظمية. وتم تسريبها لصالح جمعيات استيطانية، تقف على رأسها جمعية “عطيرات كهانيم” التي تتزعم جهوداً كبيرة للاستيلاء على عقارات المقدسيين سواء في البلدة القديمة وسلوان جنوباً، أو في الأحياء الأخرى المتاخمة مثل الشيخ جراح، واد الجوز، وجبل الزيتون.
وفي جلستها التي عقدتها الإثنين، ردت المحكمة الإسرائيلية التماساً قُدّم من قبل بطريركية الروم الأرثوذكس لإبطال صفقة تسريب فندقي “إمبريال” و”بترا”، وثبّتت بصورة نهائية ملكية المستوطنين للفندقين اللذين سُرّبا بموجب صفقة بيع تورط فيها مسؤولون كبار في الكنيسة الأرثوذكسية في العام 2004، إذ تملك الكنيسة هذين الفندقين، بالإضافة إلى قصر المعظمية في حي باب حطة، في ظل خشية من أن 27 محلاً تجارياً تقع أسفل فندق “إمبريال” قد تم تسريبها إلى جهات استيطانية.
وينهي قرار المحكمة الإسرائيلية بهذا الخصوص صراعاً قضائياً استمر قرابة 14 عاماً بشأن بيع ممتلكات الكنيسة، ما يُعدّ نصراً كبيراً لجمعيات الاستيطان التي نقلت في السنوات الأخيرة ثقلها إلى الحي المسيحي في البلدة القديمة، والمعروف بحارة النصارى، بعد تشعب عمليات الاستيلاء على مناطق هذا الحي، سواء في منطقة الجبشة، أو في منطقة سوق الدباغة المعروف بسوق أفتيموس، حيث استولى مستوطنون قبل أكثر من عشرين عاماً على مبنى ضخم هناك مكوّن من نحو 70 غرفة، ويعرف بمبنى مار يوحنا، كان تورط في بيعه أيضاً أحد رجالات الكنيسة ويدعى بابديموس، والذي لم يلبث أن فرّ إلى اليونان.
وتعليقا على قرار المحكمة العليا، قال المستشار القانوني لبطريركية الروم الأرثوذكس، المحامي أسعد مزاوي، لصحيفة “القدس” الصادرة أمس الثلاثاء، “إن القرار مرفوض، ومستغرب صدوره بهذه السرعة، ونحن بصدد جمع المزيد من المستندات والبيانات التي تدعم موقفنا، والتي وصلنا بعضها اليوم أيضاً، بأن الصفقة تمت بطرق ملتوية وغير قانونية ونتيجة رشى”. وأضاف مزاوي: “صدر قرار مسبق من المحكمة المركزية لصالح المستوطنين في عطيريت كهانيم، والذين طالبوا بالمصادقة على الصفقة والقرارات التي تمت بواسطة شركات أجنبية وهمية، وقدّمنا استئنافا على القرار للمحكمة العليا، وللأسف صدر قرار في ساعة متأخرة من يوم العاشر من الشهر الحالي، برد التماسنا والتماس المستوطنين، وإقرار الصفقات المشبوهة”.
وشدد على أن “هذا القرار ليس نهاية المطاف، وتصلنا بعض المعطيات والمعلومات والبيانات والوثائق الجديدة، التي تؤكد موقف البطريركية بأن هذه الصفقات تمت بصورة مشبوهة وفاسدة وخلفها رشاوى وفساد من داخل وخارج البطريركية، وتدخلت فيها جهات حاولت تسويغ هذه الصفقات، فبعد تجميع ودراسة وتحليل هذه المعلومات والبيانات التي وصل بعضها الإثنين، بعد القرار، سوف ندرس التوجهات والتحرك الذي سنتخذه بعد قرار المحكمة العليا”. وأشار إلى أن “المحكمة أخذت القرار بصورة سريعة في ملف فيه 20 ألف مستند ووثيقة، وهي نفسها قالت إنها بحاجة لفترة طويلة لدراسة هذه الملفات والبيانات والوثائق، وإذ بها تصدر قرارها في أقل من أسبوع”. وأكد أن هناك مجالاً قانونياً لإبطال الصفقة ونقض قرار المحكمة المركزية بعد رد الالتماس من العليا، وذلك بعد دراسة وتقييم المتوفر من الوثائق.
بدايات القضية
تشير مصادر فلسطينية إلى أن القضية كانت قد ظهرت إلى العلن في العام 2005، بعد أن نشرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في حينه تقريراً مفصلاً، عن بيع المباني الثلاثة، ما أدى في ذلك الوقت إلى البدء بعملية إقالة البطريرك إيرينيوس الذي نُفذت الصفقة في عهده، في حين قال البطريرك الجديد، ثيوفيلوس، إن الصفقة تنطوي على أعمال فساد ورشوة، ولم تتم المصادقة عليها من قبل المسؤولين في الكنيسة.
وقالت البطريركية، إن إيرينيوس لم يحصل على مصادقة مجلس السينودس لإنجاز الصفقة، كما أن محاسب البطريركية بابديموس قد تلقى رشاوى من “عطيريت كوهانيم” للدفع بالصفقة، مشيرة إلى أن الثمن الذي دفعته الجمعية الاستيطانية يعتبر متدنياً جداً مقارنة بقيمة العقارات الثلاثة. وعلى الرغم من تأكيد القضاة الإسرائيليين كلام البطريركية بأن بابديموس حصل على مبلغ 35 ألف دولار من “عطيريت كوهانيم”، إلا أنهم توصلوا إلى نتيجة أن “البطريركية لم تتمكن من إثبات أن أساس الصفقة فاسد”.
وكان أصحاب فندق “إمبريال”، تلقوا قبل عدة سنوات رسالة من المحامي الإسرائيلي يوسف ريختر يبلغهم فيها أن مجموعة تدعى مؤسسة “ريتشارد للتسويق” امتلكت من البطريركية اليونانية في القدس حقوق الإيجار لمدة طويلة. فيما أصدرت عائلة الدجاني المقدسية التي تتولى المسؤولية عن إدارة فندق “إمبريال” منذ العام 1948، في حينه بياناً اعتبرت فيه أن هذه “القضية ليست قضية آل الدجاني وحدهم، بل هي قضية وطن، نكون أو لا نكون”، مضيفة: “آن الأوان للتحرك بخطوات عملية لإنقاذ القدس وخصوصاً ميدان عمر بن الخطاب الذي لا يبعد سوى خطوات من الحرم القدسي والأماكن المقدسة المسيحية”.
مطالبات بملاحقة المتورطين
أثار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن تثبيت ملكية المستوطنين لتلك العقارات، ردود فعل غاضبة في أوساط المقدسيين، بمن فيهم أبناء رعية الكنيسة الأرثوذكسية الذين طالبوا بمحاسبة المتورطين وملاحقتهم.
ووصف الكاتب والمحلل السياسي والإعلامي، راسم عبيدات، ما جرى بأنه “تسونامي” ضرب القدس ومنطقة باب الخليل. وقال في حديث لـ”العربي الجديد”: “كان البعض في الكنيسة ومن وظّفوا أنفسهم أبواقاً لهم من لجنة عليا لشؤون المقدسات المسيحية وغيرهم، يدعون أنه لم يجرِ بيع أو تسريب تلك العقارات، لتكشف المحكمة العليا الصهيونية أنه جرت عمليات بيع وتسريب لأملاك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس وغير القدس”. واعتبر عبيدات أن “هذه الصفقة أخطر من أي صفقة سابقة، فالعقارات المستهدفة تقع على مدخل المدينة والبلدة القديمة، بما يجعل المحتل يتحكم فيها، وفي الطرق المؤدية إلى جامع عمر ومدخل كنيسة القيامة والمسجد الأقصى وخصوصاً بيت المعظمية، كما أنها تسهم في عمليات الطرد والتهجير القسري بحق أبناء الشعب العربي المسيحي في المدينة المقدسة المتناقصة أعداده أصلاً، ناهيك بالإسهام في تهويد البلدة القديمة المستهدفة بالتهويد من قبل دولة الاحتلال”. واتهم عبيدات السلطة الفلسطينية بالتقاعس في مكافحة مسربي العقارات، بمن في ذلك المتورطون في بيع وتأجير عقارات الكنيسة للجمعيات الاستيطانية.
ي المقابل، أكد القيادي في حركة “فتح”، صلاح زحيكة، لـ”العربي الجديد”، أنه على الرغم من قرار المحكمة الإسرائيلية، يمكن القيام بضغط محلي ودولي للتراجع عن هذه الصفقة وإبطالها. وقال: “في قضية النوتردام، المبنى الشهير الموجود على خط التماس ما بين القدس الشرقية والغربية منذ حرب عام 1948 وحتى عام 1967، أقدمت جمعية استيطانية متطرفة على شرائه، لكن الفاتيكان استردّ المبنى بعد ذلك وألغى الصفقة واستعاد النوتردام”. وتساءل زحيكة: “أليس بالإمكان أن يتم الاسترداد بضغط أردني فلسطيني ومن خلال الكنيسة الروسية واليونانية مع ضغط دولي ووعي عند الناس لتشكيل رأي عام مساند لاسترداد أملاك الكنيسة بدلاً من إبداء الشماتة، لإظهار أن الصفقة لن تمر والعمل مع الكنائس العالمية والمجتمع الدولي من أجل إبطال هذه الألاعيب للجمعيات الاستيطانية؟”.
من جهتها، اعتبرت المنظّمة الأرثوذكسيّة الموحَّدة، ومجموعة الحقيقة الأرثوذكسيّة، الثلاثاء، في بيان وصلت نسخة منه إلى “العربي الجديد”، تحت عنوان “…ويستمرّ النزيف”، أنه “بسبب السياسة الداخلية المرتبطة بالصراع العربيّ اليونانيّ، تقوم البطريركيّة بعقد الصفقات سراً”، مضيفة: “لم يختلف قرار المحكمة العليا عن توقّعات الخبراء المتابعين للقضيّة، خصوصاً بعد التقصير الكبير والمتعمّد (بهدف خسارة هذه العقارات) من قِبل البطريرك ثيوفيلوس والبطريركيّة في تقديم الأدلّة والبراهين التي قد تعيد هذه الأوقاف للبطريركيّة خلال المداولة في الملفّ في المحكمة المركزيّة. ونظراً لهذا التقصير، كانت احتمالات قبول الاستئناف ضئيلة جداً”.
ولفت البيان إلى أن “القاضي وفي نهاية قراره كتب: في مرحلة متقدمة في المداولة، أهملت البطريركيّة قسماً من ادعاءاتها ضد قانونية الصفقة ومن بينها الادعاء الأساسي بعدم وجود مصادقة من السينودوس المقدس على الصفقة (رفضت البطريركية كشف بروتوكولات السينودوس)، وتركزت المداولات على ادعاء تقديم رشوة لبابديموس. هذا الادعاء اعتمد فقط على مسودة تصريح رابع تم تبادله بين بابديموس والبطريركيّة أثناء الاتصالات بينهما عام 2010، وهذه المسودة لا يمكن اعتمادها لإثبات مصداقية مضمونها، كما استندت إلى تسجيل صوتي مقطّع (مدته 20 ثانية) لا يمكن اعتماده”.
واعتبرت الجمعيتان في بيانهما أن قرار المحكمة الإسرائيلية “أثبت تواطؤ وتآمر ثيوفيلوس ومَجمعه الفاسد في جريمة تسريب أوقاف باب الخليل، والتي ستعقبها جريمة جديدة من المستوطنين في محاولاتهم إخلاء قاطني هذه العقارات من الفلسطينيّين العرب”، وتابعتا: “لقد صَدَقت مخاوف الجمهور الأرثوذكسيّ من كل تصرفات ثيوفيلوس خلال هذه القضية والتي استمرت قرابة 14 سنة. فثيوفيلوس الذي سرّب آلاف الدونمات في القدس وقيساريا ويافا والرملة وطبريّا والناصرة وحيفا لجهات صهيونيّة، لا يمكنه أن يكون أميناً على أوقاف باب الخليل التي تقع في لبّ الصراع العربي-الإسرائيلي”.
ولفتت الجمعيتان إلى أن “هذا الجمهور العربي لم يتوقع من الإكليروس اليوناني المتواطئ دائماً مع السلطات الإسرائيلية حماية أيّ وقف كان بعد أن ثبت تآمر بطاركتهم السابقين وأعضاء مجامعهم الفاسدة على كنيستنا وعروبتنا ومستقبلنا، ولكن تبقى المسؤولية الأعلى في هذه القضية على من يدّعون حماية القدس ومقدّساتها وأوقافها، ابتداء من اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس، حتى الحكومة ورئاسة السلطة الفلسطينية والقيادة الأردنية الوصية على المقدّسات في المدينة المقدّسة”، وتساءلتا “هل ستتحمّل هذه المؤسّسات مسؤوليّاتها تجاه هذه الأوقاف وساكنيها؟ وهل من عقاب رادع لثيوفيلوس؟”.
اضف تعليقا