لطالما شكل إنتاج الطاقة في منطقة الشرق الأوسط معالم الصراعات والحروب لأكثر من قرن من الزمن، حيث كانت الدول العظمى تتقاتل فيما بينها للسيطرة على أكبر قدر ممكن من منابع النفط لا سيما في دول الخليج وخاصة السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم.

مقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع مجلة التايم الأمريكية يوم 18 يونيو 2019 وتصريحاته حول تراجع أهمية تدفق النفط من منطقة الخليج العربي نحو بلاده، أثارت العديد من التساؤلات بشأن نهاية عهد الحماية الأمريكية لحلفائها في المنطقة.

وكشف تقرير شركة “BB” النفطية، أن روسيا تصدرت الدول المنتجة للنفط الخام عالمياً في عام 2018، بحجم إنتاج بلغ 11.20 مليون برميل نفط يومياً حتى نهاية العام، ثم تلتها الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثاني بـ10.96، وتبعتها السعودية في المركز الثالث بـ 10.53.

 

انسحاب تدريجي

تصريحات ترامب ليست جديدة في ظل التجاذبات السياسية الدولية، فدول الغرب لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية دفعت ثمن هذه الصراعات والحروب في المنطقة طيلة العقود الماضية، بحسب تصريحات العديد من السياسيين والرؤساء الأمريكيين.

إلى جانب الدول الأوروبية بدأت الولايات المتحدة تدرس أسباب بقائها في بؤرة مليئة بالنزاعات الدولية، وتفكر بجدية في مغادرة المنطقة تدريجياً بعدما دخلت مضمار الدول المنتجة للطاقة بقوة خلال العقود الماضية.

ولا يخفى على المتابع لأوضاع منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين تراجع النفوذ الأمريكي سياسياً وعسكرياً بشكل واضح، خصوصاً في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، الأمر الذي فتح المجال أمام نفوذ إيران في المنطقة على حساب دول الخليج.

ترامب اعتبر أن واشنطن لم تعد تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط والخليج خصوصاً بالأهمية التي كانت عليها حتى منتصف خمسينات القرن الماضي، ولم يخف أن حقيقة الوجود الأمريكي في المنطقة بسبب النفط.

ورغم إرسال واشنطن قوات عسكرية ضخمة إلى منطقة الخليج خشية تعرض إمدادت النفط للتهديد من إيران، لكن ترامب بدا من خلال حديثه، قد تراجع من اللجوء إلى القوة بشأن حماية الإمدادات، في حين أبدى استعداده القيام بعمل عسكري لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي.

وتصاعدت المخاوف من مواجهة بين إيران والولايات المتحدة منذ الهجوم على ناقلتي نفط قرب مضيق هرمز الاستراتيجي يوم الخميس (13 يونيو 2019)، الذي وجهت واشنطن أصابع الاتهام فيه إلى إيران.

وتحدث ترامب مع مجلة تايم الأمريكية بنبرة اختلفت عمَّا دعا إليه بعض أعضاء الكونغرس الأمريكيين بضرورة التعامل مع إيران عسكرياً. واعتبر تأثير الهجوم على ناقلتي نفط في خليج عُمان “طفيفاً للغاية”.

وأيد تصريحات ترامب وزير الخارجية مايك بومبيو قبل أيام بالقول إن الولايات المتحدة لا تريد للصراع مع إيران أن يتصاعد، لكنها ستواصل حملة الضغط، مضيفاً: إن “الرئيس ترامب لا يريد الحرب بينما نفعل ما يلزم لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة”.

وقلل الرئيس الأمريكي من أهمية النفط المستورد من منطقة الخليج (تتزعم السعودية معظم صادراته النفطية) بالنسبة لأمريكا بالقول: “نحن نحصل على كميات ضعيفة جداً بعد أن أحرزنا تقدماً كبيراً حول الطاقة في العامين ونصف الماضيين”، مشيراً إلى قرب تصدير بلاده للنفط والطاقة.

 

مصالح أمريكا أم دول الخليج؟

وحول النفوذ الأمريكي في المنطقة، يعتقد الباحث والخبير الاقتصادي هادي فتح الله، أن إدرة ترامب لا يمكنها أن تقدم على أي خطوة في الوقت الحالي ما لم تضعها في ميزان الانتخابات المقبلة؛ لأن كل ما يهم الرئيس الأمريكي في الوقت الحالي هو الحشد للفوز في الانتخابات والتغطية على أثر التحقيقات الجارية فيما يخص التدخل الخارجي فيها.

وأضاف في حديث مع “الخليج أونلاين”: “بالتأكيد لن تنسحب أمريكا من المنطقة؛ لأن الولايات المتحدة استثمرت كثيراً في العراق والسعودية والكويت ودول أخرى”.

لكن بالمقابل، يقول فتح الله، إن الوجود الأمريكي في المنطقة لن يكون لتأمين مصادر النفط؛ لأن الولايات المتحدة تستورد حالياً أقل من مليون برميل سنوياً، وبحسب قول ترامب، فإن مصادر وإنتاج النفط في المنطقة لم تعد ذات أهمية بالنسبة للإدارة الأمريكية.

أما موضوع وجود الولايات المتحدة في المنطقة، لا سيما الخليج العربي، فهو ضمن استراتيجية تعزيز نفوذها حول العالم بالأساس وعدم فسح المجال للنفوذ الصيني أو الروسي، وليس فقط تأمين مصادر النفط، بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي.

ويضيف فتح الله، الباحث في مركز كارنيغي للبحوث (بيروت): “بالنسبة لإنتاج أمريكا من النفط، فإن مصانع تكرير النفط في الولايات المتحدة بالأصل تعتمد على النفط المستورد من المنطقة العربية؛ لذا لا يوجد شيء اسمه اكتفاء الولايات المتحدة ذاتياً من النفط”.

ويقول: “أمريكا تنتج من النفط ما يكفي للتصدير؛ ليساعدها في ميزانها التجاري أكثر من أي شيء ثاني؛ لذا ما يهم أمريكا في دول الخليج رفع مستوى التعامل التجاري وزيادة التعامل بالدولار، وما دامت عملية تدوير النفط مقابل الدولار، وعودة الدولار مقابل شراء دول الخليج أسلحة وأنظمة دفاعية، مستمرة فاحتمالية تخلي أمريكا عن هذا الميزان التجاري غير واردة إطلاقاً”.

وفيما يخص الوجود الأمريكي في المنطقة، يشير هادي فتح الله إلى أنه لا يمكن النظر إلى تموضع ونفوذ أمريكا في الشرق الأوسط من منظار استيراد وحماية إنتاج النفط؛ ذلك أن كل حقل من النفط الصخري يمكن أن ينتج على مدى سنة أو سنتين أو كحد أقصى ثلاث سنوات، لذا فحتى على المدى الطويل لا يمكن اعتبار أن أمريكا سيكون لديها إنتاج عال، فمن هذا المنطلق لا يمكنها التخلي نهائياً عن المنطقة والنفط العربي، ولأن إنتاج النفط الصخري مهما كانت كمياته ضخمة فإنه لا يمكن مقارنته بالنفط التقليدي في المنطقة العربية.

ويتطرق إلى الهدف الأساس من الوجود الأمريكي في المنطقة بالقول إنه لا يمكن أن تترك أمريكا المنطقة أو دول الخليج لنفوذ الصين؛ لأنه ليس من مصلحتها زيادة نفوذها في المنطقة، ليس لوجود مصادر النفط إنما استمراراً لاستراتيجية النفوذ الأمريكي عالمياً، لذا أمريكا غير مستعدة للحرب مع إيران ولا يمكنها شن حرب لأجل حماية دول الخليج، ولا يمكنها أن تضحي بجندي واحد من أجل دول الخليج، مها دفعت من أموال وصدرت من نفط لأمريكا، ليس هناك شيء يضطرها إلى أن تقدم على خطوة كهذه، إلا إذا كانت ضمن خطة محدودة لتحجيم دور إيران.

ويعتقد الخبير الاقتصدي أن “واشنطن قد تقوم بتحجيم طهران بالضغط اقتصادياً أو ضربات محدودة أو عن طريق قطع أجنحتها في المنطقة، لذا لا يمكن أن ينظر إلى التحركات الأمريكية على أنها مراعاة لمصلحة دول الخليج إنما لأجل المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى، والأصل في كل هذا الصراع هو منع أن تكون إيران قوة نووية وليس لأنها تهدد دول الخليج والرئيس ترامب صريح في هذا الموضوع”.

 

قفزة النفط الأمريكي

توشك الولايات المتحدة الأمريكية، قبل نهاية العام 2019، على انتزاع عرش أكبر مصدر للنفط في العالم من روسيا والمملكة العربية السعودية، اللتين تتنازعان على تصدر دول العالم كأكبر مُصدرة للطاقة.

وفي عام 1900 ازدهرت صناعة النفط بأمريكا وشهد الإنتاج قفزات متتالية، لا سيما مع استخدام النفط وقوداً للسيارات، في حين أصبح النفط أكبر مصدر للطاقة في الولايات المتحدة منذ منتصف خمسينات القرن الماضي.

وتتوقع شركة “أكسون” للطاقة أن يبقى النفط أكبر مصدر للطاقة حتى 2040؛ نظراً لمحتوى الطاقة العالية الكامنة فيه بالإضافة إلى سهولة نقله، في حين تشير بيانات ومعلومات الطاقة الأمريكية إلى تصدر الولايات المتحدة المنتجين حول العالم خلال العقود المقبلة.

شركة أبحاث الطاقة “ريستاد إنرجي”، أكدت أن الولايات المتحدة ستتجاوز السعودية، قبل نهاية العام فيما يتعلق بصادرات النفط وسوائل الغاز الطبيعي والمنتجات النفطية مثل البنزين.

وترى ريستاد في تقرير نشرته شبكة “CNN” الإخبارية الأمريكية في مارس 2019 أن تفوق الولايات المتحدة على السعودية في صادرات النفط لم يحدث مطلقاً منذ بدأت المملكة في إنتاج النفط وتصديره للخارج في الخمسينات من القرن الماضي.

وقالت إن طفرة النفط الصخري ستجعل الولايات المتحدة أكبر مصدر للنفط والسوائل في العالم.

ولم يعتقد أحد قبل عشر سنوات أنه يمكن أن تتصدر الولايات المتحدة إنتاج الطاقة، بحسب ما يذكر ريان فيتزموريس، الخبير الاستراتيجي في مجال الطاقة لدى مؤسسة “رابو بنك” الذي أكد

أن “الطفرة الصخرية أدت إلى زيادات هائلة في الإنتاج.. إنتاج الولايات المتحدة حالياً خارج التوقعات”.

ويعكس التفوق الأمريكي المتوقع كيف أعادت التكنولوجيا تشكيل المشهد العالمي للطاقة، وفتحت ابتكارات الحفر قطاعات ضخمة من موارد النفط والغاز الطبيعي التي كانت محصورة في حقول النفط الصخري في تكساس وداكوتا الشمالية وفي أماكن أخرى.

وقد زاد إنتاج النفط الأمريكي، الذي يقوده الصخر الزيتي، أكثر من الضعف خلال العقد الماضي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، وتضخ الولايات المتحدة الآن نفطاً أكثر من أي بلد آخر، بما

في ذلك روسيا والمملكة العربية السعودية.

وأكدت إدارة معلومات الطاقة، الذراع الإحصائية لوزارة الطاقة الأمريكية في تقرير، مطلع العام 2019، فيما يخص توقعات عام 2020، أن إنتاج النفط الخام في الولايات المتحدة سيقفز 1.14 مليون برميل يومياً ليرتفع إلى أكثر من 12 مليون برميل يومياً في 2019، وإلى نحو 13 مليون برميل يومياً العام 2020.

ومع وفرة العرض في الداخل، رفع الكونغرس في عام 2015 حظر تصدير النفط لمدة 40 عاماً، وقد انفجرت مبيعات النفط في الخارج منذ ذلك الحين. وفي العام 2018 زاد إنتاج الطاقة بمقدار 2.2 مليون برميل يومياً، بحسب تقرير شركة “BB”، السنوي عن توجهات الطاقة العالمية.

وقال بير ماجنوس نيسفين، الشريك الرئيسي في تقرير شركة ريستاد إنيرجي: “الوقود الأحفوري الزائد من أمريكا سيجد الكثير من المشترين الشغوفين في آسيا سريعة النمو”.

 

هيمنة النفط

تتوقع “ريستاد” أن تتلاشى الفجوة بين واشنطن والرياض هذا العام بشكل كبير. وتقول شركة “إكسون” إن إنتاجها المرتفع من الصخر الزيتي في حوض بيرميان يمكن أن يولد عائداً متوسطاً بأكثر من 10٪، حتى مع وصول سعر برميل النفط إلى 35 دولاراً.

وتخطط “إكسون” حالياً لإنتاج أكثر من مليون برميل يومياً من شركة “بيرميان” بحلول عام 2024 بزيادة 80٪ تقريباً.

ويرى نيسيفين أن الإنتاج الصخري المربح بالنظر إلى الشهية العالمية المتزايدة للنفط الخفيف والبنزين، يستعد لجعل الولايات المتحدة في موقع هيمنة نفطية في السنوات القليلة المقبلة.

وتعني تلك الهيمنة أن الولايات المتحدة يمكن أن تعتمد بشكل متزايد على النفط الذي يضخ في الداخل هذا العام، وتتوقع بيانات وزارة الطاقة الأمريكية أن تقوم الولايات المتحدة بتصدير طاقة أكثر ممَّا تستورده في عام 2020.

وخلال القمة السعودية الأمريكية التي عقدت في مايو 2017، وقع الملك سلمان وترامب عدة اتفاقيات تعاون عسكري ودفاعي وتجاري بقيمة 460 مليار دولار، في حين قال وزير التجارة السعودي ماجد القصبي إن بلاده منحت تراخيص للاستثمار بالمملكة لـ23 من كبرى الشركات الأمريكية.

وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية كان ترامب يطالب السعودية بـ “الدفع مقابل الحماية”، إذ قال في أكثر من مناسبة إنه يتعين عليها دفع الأموال مقابل ذلك.

وفي 2015 غرد على صفحته في تويتر، قبل توليه رئاسة أمريكا، “إذا كانت السعودية التي تدر مليار دولار كل يوم من النفط تحتاج إلى مساعدتنا وحمايتنا، فإن عليهم أن يدفعوا ثمناً كبيراً. لا فطائر مجانية”.