“التنقيب عن الغاز” ملف جديد يواجه تركيا على المستوى الدولي، في ظل ملفات دولية ساخنة، بعضها لم ينتهِ تماماً؛ مثل منظومة صواريخ “إس-400″ الروسية، و”إف-35” الأمريكية، وتلويح واشنطن بعقوبات قادمة؛ إضافة إلى الأزمة السورية والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي.

وتولي أنقرة هذا الملف أولوية كبرى، خصوصاً أنها لا تمتلك الطاقة، وتستورد أغلبها من روسيا وإيران، وهو ما يجعل تحركاتها بمستوى أمن قومي عالي المستوى.

تركيا تنقب

دشنت تركيا سفينة الحفر الأولى لها “فاتح”، في أكتوبر الماضي، للتنقيب غربي قبرص إلى جانب “بربروس” المتخصصة بالتنقيب عن النفط والغاز، وقالت إن ثانية اشترتها ستعمل في البحر الأسود، لكنها حوّلت مسارها إلى المنطقة القبرصية.

ويوم السبت (6 يوليو الحالي)، أعلن وزير الطاقة التركي فتحي سونميز أن السفينة “يافوز” ستبدأ التنقيب عن الغاز قبالة قبرص الأسبوع المقبل، موضحاً: “إننا سنباشر عملية التنقيب الأولى خلال أسبوع”.

وأوضح في تصريحات لقناة “إن تي في” التركية الخاصة، أن السفينة “يافوز” التي انطلقت من السواحل التركية في 20 يونيو الماضي، ستعمل بمنطقة قبالة شبه جزيرة كارباس، التي تقع شمال شرقي الجزيرة، أي في الشطر الذي تسيطر عليه “جمهورية شمال قبرص التركية”.

اعتراض دولي

لكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا واليونان و”إسرائيل” ومصر لم تكن راضية عن التحرك التركي الجديد، غير أن تركيا مستمرة في خطوتها، مؤكدة أنها ستتخطى الأمر دون مشاكل.

وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورتاغوس، يوم الاثنين (8 يوليو): “تشعر الولايات المتحدة بقلق عميق إزاء نية تركيا إجراء عمليات تنقيب في المنطقة التي تراها الجمهورية القبرصية (اليونانية) منطقة اقتصادية خالصة تابعة لها”.

وذكر الاتحاد الأوروبي في بيان، أن “عزم تركيا المعلن على القيام بعملية تنقيب جديدة غير قانونية شمال شرقي قبرص يثير قلقاً بالغاً”، بحسب ما نقلته وكالة “رويترز”.

من جهتها قالت الخارجية الروسية: إن موسكو “تتابع بقلقٍ تطور الأوضاع في المنطقة”، ووصفت الخطوة التركية بأنها “انتهاك لسيادة قبرص”، وفق ما ذكرته قناة “روسيا اليوم”.

بدورها، حذّرت الخارجية المصرية، في 4 مايو 2019، من انعكاس أية إجراءات أحادية الجانب على الأمن والاستقرار في منطقة شرقي المتوسط، لافتةً إلى أنها تتابع باهتمام وقلقٍ التطورات الجارية حول نية تركيا بدء أنشطة حفر في منطقة بَحرية تقع غربي قبرص اليونانية.

لكن تركيا ردّت على كل تلك التصريحات والتهديدات في بيان لخارجيتها بالقول: إنها “لا تمتُّ إلى الحقيقة بِصلة، فقلق الولايات المتحدة من التنقيب في أراضٍ غير تركية ليس صحيحاً، ودعوة أمريكا تركيا إلى عدم التنقيب في منطقة يدّعي القبارصة أنها لهم، على الرغم من وجود اتفاقية ترسيم حدود سارية، ليست مقارَبة بنّاءة ولا تتماشى مع القانون الدولي”.

وقال الباحث التركي علي باكير: إنّ “المشكلة بين تركيا وقبرص (اليونانية) تتسم ببُعدين: الأول يرتبط بالدولتين مباشرة، والثاني يرتبط بالعلاقة بين قبرص (التركية، لا يعترف بها أحد باستثناء تركيا) وقبرص (اليونانية، عضوة في الاتحاد الأوروبي)”.

وأردف في دراسة له نُشرت بمركز الجزيرة للدراسات (أبريل 2018)، أنه “على الرغم من ذلك، غالباً ما يتم التعامل مع الملف باعتباره مشكلة واحدة ذات أبعاد سياسية وقانونية وحدودية واقتصادية وأمنية متشابكة ومتعددة”.

وأضاف: إنّ “تركيا ليست عضوة في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي تتيح تحديد المناطق البحرية، وأحد أسباب ذلك هو نزاعها مع اليونان في بحر إيجه، كما تعتبر تركيا أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها (لم يتم الإعلان عنها رسميّاً)”.

وبحسب باكير، “لا تعترف تركيا بالاتفاقات التي أقامتها قبرص (اليونانية) لترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان، وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب عن الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوق أنقرة”.

مخزون هائل

وتمتاز منطقة شرقي البحر المتوسط بأنها مدفن ثروات طبيعية هائلة، ولكن الطاقة هي المحرك الأساسي للاستقرار وتحقيق تقدُّم اقتصادي وسياسي فعال في بقعة جغرافية تعد الأكثر غلياناً على مستوى العالم.

وستكون هذه المياه من أهم مكامن الطاقة في العالم خلال السنوات المقبلة، وهو ما جعلها محط أنظار القوى الإقليمية والعالمية، حتى شبهها البعض بمنطقة الخليج العربي في بداية السبعينيات من القرن الماضي.

وتقع تركيا ومصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي والأراضي الفلسطينية (غزة) واليونان وقبرص وقبرص التركية ولبنان وسوريا في شرقي المتوسط.

وقدرت هيئة المسح الجيولوجي مخزون الغاز في المتوسط بنحو 122 تريليون قدم مكعبة، من ضمنها الحقول الواقعة بالمياه الإقليمية، في حين قدرت الاستثمارات النفطية في قبرص اليونانية بـ198 مليار متر مكعب من الغاز عام 2012، والتي من المتوقع أن توفر لها 39 مليار دولار تشمل حصة التنقيب.

واكتشفت شركة “نوبل إينرجي” حقل “أفروديت” خارج سواحل قبرص عام 2011، والذي تقدَّر احتياطيات الغاز الطبيعي فيه بما يتراوح بين 5 و8 مليارات قدم مكعبة.

وقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نجم الدين أربكان، غوكهان بوزباش: إن “أحدث اكتشاف أُعلن في فبراير الماضي، كان يتعلق بخزّان عملاق للغاز الطبيعي في حقل (غلاوكوس1) قبالة شواطئ قبرص بواقع ما بين 5 و8 تريليونات قدم مكعبة”، بحسب “الجزيرة نت”.

والاكتشاف توصلت إليه شركة “إكسون موبيل” الأمريكية العملاقة، في حين أوقفت أنقرة سفينة ترتبط بشركة “إيني” الإيطالية قبل أكثر من عام، فضلاً عن حضور آخر لشركة “توتال” الفرنسية.

وأضاف “بوزباش” أن تركيا تتمسك بالتنقيب، رغم تحسُّن علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا في خطط نقل الطاقة، بفكرة أن التعاون الغازي مع “إسرائيل سيعني مشاركتها في تقاسم أكثر من تريليون متر مكعب من هذه الموارد، والحصول على حصة لا بأس بها من 235 مليار يورو، وتقليص حاجتها للغاز الروسي والإيراني”.

يشار إلى أنّ أنقرة تستورد نحو 58% من الغاز المستهلك لديها من روسيا، و19% من إيران، و9% من أذربيجان، و14% على شكل غاز مسال من الجزائر ونيجيريا.

وتحتل تركيا المرتبة التاسعة عالمياً بين الدول المستوردة للغاز الطبيعي بمقدار وصل إلى أكثر من 45 مليار متر مكعب في العام تقريباً.

قبرص “تركية”

ورغم أنّ الجزيرة المقسمة إلى شطرين بين النفوذ التركي واليوناني، لم يعترف بشطرها التركي إلا تركيا حتى اللحظة، فإنها ما زالت متمسكة بشكل كبير للغاية بها، وخاضت حرباً لأجلها في سبعينيات القرن الماضي.

فقد أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الـ6 من يوليو الحالي، قراراً رئاسياً يقضي بتشكيل تنسيقية تُعنى بشؤون قبرص التركية، ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، ستعمل على تسيير العلاقات بين أنقرة والجزيرة المتوسطية، حيث سيتم تعيين المنسق المعنيّ من قِبل نائب الرئيس أو أحد الوزراء.

وتهدف تركيا من هذه الخطوة، إلى تنظيم العلاقات بهدف تطوير وتنمية قبرص التركية، وتنظيم الأمور المالية والاقتصادية، وتقديم المساعدات الفنية وتخطيطها، وتعمل تحت رعاية رئاسة الجمهورية لتنظيم شؤون قبرص التركية.

وتم الإعلان عن إنشاء جمهورية شمال قبرص التركية في 15 نوفمبر 1983، ولكنها نشأت فعلاً في سنة 1975، إثر تدخُّل تركيا عسكرياً في قبرص وسيطرتها على الجزء الشمالي من البلاد.

وجاء التدخل العسكري التركي لمساعدة القبارصة الأتراك، عقب أزمة حادة في العلاقات بين المجتمعين اليوناني والتركي بقبرص، انتهت بانقلاب عسكري قاده عناصر من القبرصيين اليونانيين.