مع تزايد الاعتداءات الإسرائيلية في القدس في ظل تواطؤ أمريكي وغياب عربي واضح، يبدو أن الأردن يواجه وضعاً صعباً يهدّد شرعيته من خلال خسارته الوصاية على المقدسات.

علاقة الأردن بالمسجد الأقصى مصيرية، عابرة للجغرافيا وللحسابات. ليست علاقة معنوية كما يراها البعض، ولكي نفهم الرعاية الأردنية للمقدسات، وسبب تمسُّك الحكم الهاشمي بها، لا بدَّ من الحفر عميقاً في شرعيات الحكم في الأردن. عندها، سنكتشف أن القدس معادل موضوعي للشرعية الأهم والأبقى.

الهاشميون غادروا مكة بعد استيلاء آل سعود عليها، إذ تركوا وراءهم “مكة والمدينة”، “الحرمين”، فلم يتبقَّ لهم بعد ذلك من الشرعية الدينية إلا القدس، لأنها المكان المقدس الوحيد القادر على أن يسعف الحكم الهاشمي في حال تراجع شرعياته الأخرى “كشرعية الإنجاز وغيرها”.

أضف إلى ذلك أن ورقة القدس توفّر للدولة الأردنية مقعداً معتبراً على الطاولة في أي تسوية. ففي المنطق السياسي تُعتبر القدس طريقاً للحفاظ على الهوية الأردنية من العبث والتلاعب.

 

انتهاكات مستدامة.. وانكشاف أردني

في الآونة الأخيرة تكثفت انتهاكات الكيان الإسرائيلي للمسجد الأقصى من حيث الكمّ والنوع. هنا أصبحت الأمور واضحة، فاليمين الإسرائيلي مدعوماً بحليفه الأمريكي، يمضيان قُدُماً في خلق وقائع حساسة في القدس. والهدف إخراج ملف المدينة من أيدي الأردنيين والفلسطينيين، وإبعاده عن أي عملية تفاوض محتملة.

تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي حول تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، ومنح اليهود حق الصلاة فيه، تعني فعليّاً تهديد الرعاية الأردنية، خصوصا أن الأوروبيين والأمريكيين، ودولاً كبرى في العالم، تتفرج على المشهد في القدس، ولا يهمها الخطوات المقبلة.

الأردن منكشف، والنطاق حرج وضيق، فالإدارة الأمريكية منحازة جدّاً للجانب الإسرائيلي، وتخطّط معه ولأجله، والأصعب أن اليمين الإسرائيلي، وآخرين معه في المجتمع السياسي الصهيوني، بدأت تتبلور رغباتهم في إخراج الأردن من ملف القدس.

عربيّاً، الانكشاف يبدو أعمق، فالعواصم الكبرى (القاهرة وبغداد ودمشق) أصابها الكساح، والخليج العربي يهرول خوفاً من إيران نحو تحالفٍ وعلاقة مع تل أبيب ثمنها الضغط على الفلسطينيين والأردنيين، أو على أقل تقدير تجاهلهما.

 

اليمين السعودي الجديد.. أشدّ الضغوط وأخطرها

الأشدّ إرهاقاً على الأردن في ملف رعاية المقدسات، هو السلوك السعودي الجديد القادم من بين ثنايا عقلية وليّ العهد محمد بن سلمان.

لدى دوائر القرار الأردني قناعةأن اليمين السعودي الجديد لا يكتفي بسلبيته وعدم دعم عمّان في مواجهة سلوك تل أبيب، بل ثمة قناعة أنهم جزء من المؤامرة والمزاحمة على نزع الملف من الأردن.

في الطموحات السعودية شكوك وغموض، لكن الواضح أن اليمين السعودي قاسٍ وخشن مع الأردن هذه الأيام، فهناك لعب من تحت الطاولة، وهناك تخلٍّ اقتصادي عن الأردن، وهناك إشارات تأتي من إسرائيل تؤكّد هذا العبث.

 

تحرش إسرائيلي بحصة الأردن في الأقصى

نعود إلى تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان، الذي تحدث بوضوح عن السماح لليهود لأول مرة بدخول حرم المسجد الأقصى والصلاة فيه.

هذه الورقة أقلقت الأردن لما تحمله من إشارات واضحة على تَعَدٍّ محتمَل على حصة الأردن في المقدسات الإسلامية والمسيحية. فدخول اليهود إلى حرم المسجد الأقصى يعني نهاية وصاية الهاشميين.

لدى الإسرائليين خطة مبيَّتة، وفي رائحة الخطة دعم أميركي مفرط، وإجماع صهيوني، وأطراف عربية تحلم بدور لها في القدس.

 

الممكن والمتاح.. فهم مغلوط وجعبة فقيرة

الأردن، إلى الآن، يواصل إدارة مشهد الانتهاكات، ونزع الملف من يديه، بطريقة كلاسيكية قديمة تكيفت معها تل أبيب ولم تعُد تصيبها بالإزعاج.

الصندوق الأردني البائس لا يزال يعتمد على الاتصالات الفنية، وبيانات وزارة الأوقاف، أو عبر وزارة الخارجية. وفي أشد المواقف نشكو للأميركان، وفي آخر الخطوات التصعيدية تم استدعاء سفير إسرائيل في عمَّان إلى الخارجية.

هنا نتساءل: هل جعبة الأردن خالية إلى الحد الذي يصبح فيه المتاح فقيراً وعليلاً إلى هذه الدرجة؟ وهل هذا المتاح كافٍ كي يُلجِم الاعتداءات والمخططات الصهيونية؟

باعتقاد كثيرين أن ما يقدمه الأردن لا يكفي، وفي الإمكان أفضل مما كان، وعلى صانعي السياسة الأردنية والمؤثرين فيها أن يتعاملوا بأقصى درجات الحذر مع كل خطوة يخطونها في ملف العلاقات الشائكة مع إسرائيل.

 

الخط الأحمر يحتاج إلى مقاربة نوعية

دائماً يؤكّد الأردن أن القدس والمقدسات، وحقوق الشعب الفلسطيني بالعودة والدولة، هي خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها أو القفز عنها.

كل ذلك يحتاج إلى معطيات وإجراءات حماية. فالأقوال تصدقها الاستراتيجيات الإجرائية القادرة على ترجمتها إلى واقع. من هنا، لا بد من مقاربة أردنية جديدة عنوانها استنطاق كل الملفات الممكنة لمواجهة الغطرسة الصهيونية.

ولعل أي مقاربة أردنية جديدة يجب أن تستند إلى أن الاتفاقية مع إسرائيل “وادي عربة” ليست مقدَّساً ولا خطّاً أحمر، وأنها أداة طيعة يجب تجنيدها لخدمة المقاربة الجديدة.

 

ما الخيارات؟ أدوات قوة الأردن

أمام الأردن خيارات متاحة، هذه الخيارات ستفقد قيمتها في حال تأخرنا في وضعها على الطاولة، ومن هذه الأدوات:

أولاً: العلاقة الدبلوماسية ليست أمراً مقدساً، وهناك خطوات يجب أن تصل لطرد السفير وقطع العلاقات.

ثانياً: وقف كل العلاقات التجارية والتطبيعية والاتفاقات الاستراتيجية مع إسرائيل.

ثالثاً: وضع اتفاقية وادي عربة على طاولة النقاش بشكل جدي وحقيقي.

رابعاً: التشبيك مع النخبة الشعبية والمقدسية الناشطة وتقديم العون والمساعدة لها.

خامساً: الإسراع في مأسسة “النخبة الدينية الإسلامية والمسيحية” التي قارعت الصهاينة في أزمة البوابة الإليكترونية، وعدم التحسس من نفوذها.

سادساً: التواصل الأعمق مع الفلسطينيين، ووضع خطط مشتركة للمواجهة.

سابعاً: عقد مؤتمر عربي-إسلامي في عمّان يحضره الأتراك والمغاربة والسعوديون، غاياته تأكيد الوصاية الأردنية، وأن أي مزاحمة للدور الأردني ما هو إلا محض افتراء.

ثامناً: الانفتاح على المكونات الفلسطينية كافةً من فتح وحماس وغيرهما.

تاسعاً: الرهان الحقيقي على المقدسيين، وتعزيز صمودهم، ودعم قياداتهم المحلية، فهؤلاء أقوى مما يعتقد كثيرون.

أخيراً، المؤشرات تدلّ على أننا أمام وضع مختلف، وضع لا يستقيم التصالح معه أو التكيف أو السكوت عنه. وعلى الأردن أن يتحرك بكل طاقاته سريعاً، لا رفعاً للعتب، بل إيماناً بأن الأمن الوطني الأردني مرتبط بهذا الملف ارتباطاً صميماً لا فكاك منه.