كانت زيارة وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” لقمة مجموعة السبع في فرنسا أواخر الشهر الماضي مفاجأة للكثيرين في الغرب، حتى إن البعض نظر إليها على أنها مقدمة لانفراج سياسي.

لكن بالنسبة للقيادة الإيرانية، كانت رحلة “ظريف” السريعة إلى “بياريتز” مجرد فرصة ضئيلة لتعزيز الموقف الإيراني في المواجهة الأمريكية الإيرانية، وقد تم تأكيد هذا في الأيام التي تلت ذلك.

فلا تزال إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ترفض رفع العقوبات عن النفط الإيراني، ولن تشارك طهران في محادثات مباشرة مع واشنطن حتى يتم تخفيف العقوبات بشكل واضح من قبل الجانب الأمريكي.

وبعيدا عن الرمزية، ترك “ظريف” بياريتز خالي الوفاض، لكن رحلته التالية كانت أفضل حالا، وقبل أن يصل إلى بكين، كان “ظريف” قد أوضح بالفعل نواياه لصحيفة “جلوبال تايمز” الصينية البارزة، حيث أكد أن إنشاء “شراكة استراتيجية” مع الصين يعد طموحا للقيادة في إيران.

ولكن على الرغم من حاجة طهران العميقة لبكين لإنقاذها، فإن الرأي السائد هو أن هناك حاجة إلى علاقة مختلفة نوعيا مع الحكومة الصينية قبل أن تتمكن إيران من الالتزام بأن تصبح “محطة” للصين في غرب آسيا، ويبقى السؤال الأهم هو كيف ترى الصين مصالحها طويلة المدى في إيران.

وفي خضم الصدام الجيوسياسي الكبير الجاري بين الولايات المتحدة والصين، من غير المنطقي أن ترضخ بكين لجدول أعمال واشنطن بعزل طهران، وفي الواقع، انتهك الصينيون بالفعل علنا العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، عبر الاستمرار في شراء النفط الإيراني، من بين أمور أخرى.

ويذهب بعض المراقبين إلى أبعد من ذلك متوقعين رؤية خطة إنقاذ صينية لانتشال إيران من براثن إدارة “ترامب”، قائلين إن “إيران هي مفتاح خطط الصين”، كما كتب “روبرت كابلان” مؤخرا في “نيويورك تايمز”.

وليس هناك شك في أن بكين تعتبر إيران من الأصول الرئيسية في غرب آسيا، فهي بلد يتمتع بموارد طبيعية من الدرجة الأولى، والكثير من رأس المال البشري، وسوق جائع وغير مستغل نسبيا، وتعد الصين بالفعل أكبر شريك تجاري لإيران، إضافة إلى ذلك، تعد إيران أيضا من الدول المستقلة سياسيا على الساحة العالمية، والتي قد تصبح دولة حليفة للصين إذا تم استغلال هذه الحقيقة جيدا.

ببساطة، من وجهة نظر الصين، لا يوجد سبب يجعلها ترغب في أن تنجح حملة “أقصى ضغط” من قبل إدارة “ترامب” ضد إيران، ومع ذلك، ليست هذه هي القصة كلها، فالعلاقات بين البلدين أكثر تعقيدا.

 

شيفرة العلاقة

ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الـ21، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لإيران والزبون الأكبر للنفط الإيراني، وامتد التعاون بين البلدين ليشمل مبيعات الأسلحة والموازنة الجيواستراتيجية ضد الولايات المتحدة.

وحدد المخططون الصينيون إيران كواحدة من أهم الدول في مشروع ربط آسيا بأوروبا، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، وهي مبادرة السياسة الخارجية الرائدة للرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ويعد الهدف النهائي للمبادرة هو إعادة هيكلة نظام قواعد التجارة العالمية وممارسات الاستثمار نحو تأسيس نظام أكثر ملاءمة للصين، ويهدف المشروع الكبير أيضا إلى إبراز القوة الناعمة للصين وإنشاء الأسس لهيمنتها في منطقة أوراسيا.

وقد تم وضع الكثير من الرؤى حول التعاون الإيراني الصيني خلال زيارة “شي” إلى طهران في يناير/كانون الثاني 2016، واتفقت الدولتان على توسيع التجارة بينهما لتصل إلى 600 مليار دولار على مدى فترة خلال 10 أعوام، كجزء من خطة مدتها 25 عاما لبناء تعاون أقوى بين البلدين.

وبالإضافة إلى التجارة، تعد الصين مستثمرا رائدا في السوق الإيرانية، وتستثمر نحو 100 شركة صينية كبرى في القطاعات الاقتصادية الرئيسية في إيران، خاصة الطاقة والنقل، على سبيل المثال، أعادت المؤسسة النووية الصينية تصميم مفاعل أراك في إيران، لتلبية متطلبات عدم الانتشار تلبية لشروط النووي الإيراني لعام 2015.

وقدمت الحكومة الصينية قرضا بقيمة 10 مليارات دولار للشركات الصينية لبناء السدود ومولدات الطاقة وغيرها من البنى التحتية في إيران، مثل مشاريع السكك الحديدية في كل “بايانور” و”مشهد” و”بوشهر” على الخليج.

كما تريد الصين أيضا المساعدة في تسريع بناء ميناء في “تشابهار” على خليج عُمان، وهو مشروع تضع الهند عينيها عليه بشكل خاص، وكمثال آخر بارز، هناك خطوط المترو الخمسة في طهران، التي تم بناؤها جميعا بواسطة الشركات الصينية، وتم صنع عربات السكك الحديدية من قبل شركة إيرانية صينية مشتركة، وهي شركة “طهران واغن” للتصنيع.

وعلى الرغم من أنها لا تزال تفتقر إلى بعض التقنيات المتقدمة المتاحة للشركات الغربية، أصبحت شركات الطاقة الصينية من بين المطورين المهمين لحقول النفط والغاز الطبيعي في إيران، التي تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز بعد روسيا، وواحدا من أكبر احتياطات النفط في العالم.

ووفقا لوزارة النفط الإيرانية، قامت “الصين” في شهر أغسطس/آب بترسيخ مشاركتها في 3 مشاريع رئيسية للطاقة في إيران، وهي حقل جنوب بارس للغاز الذي يعتبر الأكبر في العالم وتتشاركه إيرام مع قطر، وحقل نفط “يادآوران” على الحدود مع العراق، وتطوير محطة نفط “جاسك”، التي تقع شرق مضيق هرمز. ولا شك في أن الصين قد استفادت اقتصاديا من غياب شركات الطاقة الغربية عن إيران بسبب الضغوط الأمريكية.

وعلى حد تعبير “ظريف”، فإن الصين وإيران “شريكان استراتيجيان على العديد من الجبهات”، وفي زيارته الأخيرة، ناشد وزير الخارجية الإيراني بكين تعزيز العلاقات حتى يتمكن البلدان من معالجة مجموعة من القضايا، بما في ذلك قمع التطرف والإرهاب، وفي حين أنه لم يشر إلى حملة القمع المستمرة والمثيرة للجدل التي تشنها الصين ضد المسلمين في “شينجيانغ”، لكن “ظريف” كان واضحا في انتقاد السياسات الأمريكية. 

وينبغي على الصين، حسب تفكير “ظريف”، أن تواجه التحدي المتمثل في إنهاء التعصب الأمريكي المفترض في جميع أنحاء العالم، وأن تلقي بدعمها الكامل لإيران في هذا الجهد.

وبعد انتقاده لقرار إدارة “ترامب” بالتخلي عن الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، طلب “ظريف” صراحة دعم بكين الفوري للاتفاق لإبقاء بلاده على قيد الحياة، قائلا: “قد يكون لكيفية استجابتنا لهذا التطرف الأمريكي وهذا الانتهاك الصارخ للالتزامات الدبلوماسية والقانون الدولي تأثير على قدرتنا على الوصول إلى تلك الرؤية المشتركة لمستقبل قارتنا”.

وناشد “ظريف” التعاطف الصيني من خلال تسليط الضوء على الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، كمثال أولي على أن الأحادية الأمريكية تشكل خطرا على ما أسماه “النظام الدولي القائم على القواعد”.

 

علاقة محفوفة بالمخاطر

ومع ذلك، كان هناك شعور بالخوف من رد فعل الصين على التلاعب الواضح بالكلمات في حديث “ظريف”، وكانت دعوته إلى زرع “أسس قوية للعلاقات الاقتصادية التي تعود بالنفع على كلا الطرفين” إيماءة خاطفة لمخاوف إيران من أن العلاقات الاقتصادية الحالية تميل لصالح الصين.

ويشير المسؤولون الإيرانيون بهدوء إلى حقيقة أن الضغوط الأمريكية على إيران حولت بلادهم إلى أسير تجاري لبكين، ويعد النفط الخام الإيراني منخفض السعر، الذي يذهب إلى الصين مقابل أي شيء ترغب الصين في تقديمه، غير كاف لرؤية إيران للشراكة الاستراتيجية.

وبدلا من ذلك، حث “ظريف” الصينيين على السماح لإيران “بالمساهمة بفعالية في خطة الصين لبناء قاعدة رائدة على مستوى العالم للعلوم والتكنولوجيا والابتكار”، وقد طلب إدراج إيران في ما اعتبره كثيرون في طهران عصر ذهبي قادم للصين.

وفي سعيها لإغراء الصين، يُقال إن طهران مستعدة لإلغاء متطلبات التأشيرة للسائحين الصينيين، ويعد هذا مجرد فصل أخير في سياسة “التطلع إلى الشرق” الإيرانية، وهي استراتيجية قديمة قدم الجمهورية الإسلامية نفسها.

ولا يوجد أدنى شك في أن الصين مستعدة بشكل متزايد لاستغلال ميل إدارة “ترامب” لاتخاذ إجراءات أحادية لإثبات سمعة “بكين” كصاحب مصلحة مسؤول، وسوف تلعب الصين بورقة إيران وفقا لذلك.

وسوف تملأ الفراغ التجاري والاستثماري الذي خلفته الشركات الغربية التي غادرت إيران، وسوف تشجع على زيادة التجارة المقومة باليوان. ومن الناحية السياسية، سوف يستفيد الصينيون من الأزمة النووية لترسيخ نفوذهم في الشرق الأوسط حيث تخشى بكين من نشوب صراع أوسع نطاقا من شأنه أن يعطل وارداتها من الطاقة.

ومع ذلك، لا تعتبر الصين إيران أقرب صديق لها، فحتى عندما تسارعت العلاقات الإيرانية الصينية في بداية القرن الحالي مع تجاوزت الصين ألمانيا كأكبر شريك تجاري لإيران، ظلت بكين تولي اهتماما وثيقا لحساسيات واشنطن تجاه طهران.

وتظهر الأرقام الاقتصادية للأشهر الخمسة الأولى من عام 2019 أن تجارة الصين مع إيران انخفضت بشكل ملحوظ مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق عندما لم تكن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران سارية.

لكن موقف الصين المتردد تجاه إيران لا يمكن تفسيره كليا عبر عدسة الإجراءات الأمريكية، ويظهر ذلك في موقف الصين الرافض لمحاولة إيران طويلة الأمد الانضمام إلى “منظمة شنغهاي للتعاون”، ووقد رفضت المنظمة مرارا بدء محادثات انضمام طهران، ما أثار خيبة أمل إيران.

وتدرك طهران في الوقت نفسه أن الصين لها علاقات مع كل دولة في الشرق الأوسط، بما في ذلك خصوم إيران مثل (إسرائيل) والسعودية، وهي علاقات قد تتعرض للخطر إذا تحركت بكين للتقارب أكثر مع طهران.

وببساطة، على الرغم من دعوات “ظريف” الحثيثة للقيادة الصينية، فلا يمكن أن تتوقع طهران أن تختار الصين الانحياز لموقفها ضد الولايات المتحدة بأي ثمن، ومن المتوقع أن تلعب الصين بأوراقها في إيران بعناية، لكن الإيرانيين يأملون في أن استمرار الخلاف الأمريكي الصيني يمكن أن يوفر بعض الفرص لطهران.

ومن وجهة نظر بكين، تتباين الآثار قصيرة الأجل لقرار واشنطن بالانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015، ونظرا للآثار العالمية لتجديد العقوبات الأمريكية، سيكون لدى الإيرانيين أموال أقل لشراء البضائع الصينية، وهناك خطر من أن الانسحاب قد يحفز إيران على استئناف برنامجها النووي، ما يزيد من احتمال نشوب صراع عسكري في الخليج العربي.

ومع ذلك، يحتاج الإيرانيون – تحت العقوبات – إلى المزيد من القروض والاستثمارات من الصين، ومن المرجح أن يكونوا على استعداد لتقديم النفط الإيراني للصين بخصومات مستمرة، ومن المرجح أن يرى صناع السياسة الصينيون، الذين ينظرون أكثر للمنظور طويل الأجل، فرصا لتحقيق مكاسب أكبر من إيران المعزولة عن الغرب والتي تعتمد على الدعم الاقتصادي والأمني ​​الصيني.

وسيكون أحد المؤشرات المبكرة لنهج بكين في مسألة العقوبات الإيرانية هو كيف ستستجيب الصين لمطالب إدارة “ترامب” بوقف استيراد النفط الإيراني، على المدى القريب.

وإذا اتخذت بكين موقفا أكثر جرأة وقامت بتزويد الأوروبيين والإيرانيين بشبكات مالية بديلة لمساعدتهم على التهرب من العقوبات الأمريكية، فقد يشير ذلك إلى أن بكين تعتبر إدارة “ترامب” مجرد “نمر من ورق” وترى أن استراتيجيتها تجاه إيران ليست سوى حملة مؤقتة.