الهند التي تشكّل خُمس سكان المعمورة، تميّزت عبر عقود بفرادتها العالمية وهي التعددية الثقافية والدينية والعرقية واللغوية؛ إذ قلّما يخلو اسم الهند من قرنه بأكبر ديمقراطية تعددية في العالم.
هذه الهند اليوم مهدّدة بشكل حقيقي وواقعي من الانقلاب على ذلك الإرث الطويل الذي بدأه المهاتما موهاندس غاندي يوم دافع عن حقوق المسلمين فيها حين تعرّضوا لمجازر ومذابح إبان فترة التقسيم.
فراح بنفسه ضحية الجماعة الهندوسية المتطرفة وهي «آر.أس.أس»، التي تحولت لاحقاً إلى حزب «جاناتا بارتي» الهندوسي المتطرف الحاكم، فاغتالته الحركة وقضت على رمز من رموز الاستقلال الهندي مبكراً.
الهند اليوم بإغلاقها كشمير عن العالم الخارجي وقطع التواصل بالهاتف والإنترنت معها، والشروع في عمليات تغيير ديمغرافي، مهدّدة بخسارة ذلك الإرث العالمي. بوادر ذلك ليست وليدة اللحظة؛ وإنما بدأت منذ وصول الحزب الهندوسي المتطرف إلى الحكم.
فصعد بسرعة الطلقة بدخوله الانتخابات عام 1978، وما يتعرض له المسلمون وما يتهدّدهم على أيدي الهندوس المتطرفين الذين رفعوا شعار «هندوتفا» (الأيديولوجية الهندوسية)، التي يرون أن جغرافيتها تمتد إلى مكة المكرمة.
هذه السياسة تراها مدعومة بشكل خفي وأحياناً واضح من الحزب الحاكم؛ فالمسلم ربما يتعرض لأسوأ معاملة من قِبل المتطرفين الهندوس لأبسط الأسباب وأتفهها.
العنصرية الهندية تعزّزت بالعلاقات العسكرية والسياسية والتقنية مع العنصرية الإسرائيلية؛ إذ تُعدّ الهند سوق سلاح كبيراً لإسرائيل؛ فقد اشترت إسرائيل من الهند عام 2017 ما قيمته 530 مليون جنيه إسترليني.
وبينما تتحرج الدول الغربية من بيع أسلحة وذخائر لحكومة ميانمار التي تضطهد المسلمين بسبب العقوبات المفروضة عليها، تسارع إسرائيل إلى بيعها دبابات وقوارب عسكرية ونحوها من الأسلحة والذخائر؛ لتؤكد واقعها بالتعاون مع كل دولة تضطهد المسلمين وتطاردهم.
كما باعت تل أبيب قنابل ذكية لنيودلهي استخدمتها قبل سنوات في قصف مواقع لجيش محمد داخل الأراضي الباكستانية. بالإضافة إلى هذا كله، هناك تعاون تدريبي بين الجيشين، ونقل تكتيكات إسرائيلية في حربها بغزة إلى الجيش الهندي لاستخدامها ضد الكشميريين.
وكما السردية الإسرائيلية أن اليهودي أو الإسرائيلي ضحية العربي والفلسطيني، تقوم سردية حزب جاناتا بارتي الهندوسي المتطرف الحاكم على الترويج لكون الهندوسي في شبه القارة الهندية إنما هو ضحية للمسلم وللحكم الإسلامي الذي حكم المنطقة لقرون.
مواصلة الهند السياسة العنصرية هذه تعني نهاية الهند التي عرفها العالم، وستنتهي معها تلك التعددية التي تميّزها من غيرها، ويفجّر بالتأكيد تناقضات لا أول لها ولا آخر.
هذه التناقضات الخطرة تتمثّل في ظهور كل عرقية وجماعة دينية لتطالب بحقوقها، ومن بينهم التاميل والسيخ والمسلمون واللداخ وغيرهم كثير وكثير، ويساعدها على ذلك امتداداتها العرقية واللغوية في دول الجوار.
فقوة الهند وكيمياؤها وحمضها النووي كان ولا يزال في تعدّدها وتنوّعها، وحال التخلي عنه يعني الارتكاس إلى العنصرية الهندوسية فتنتهي معها عظمة الهند وفرادتها العالمية التي اشتُهرت بها.
هذا التراجع الهندي سيكون انتكاسة كبيرة للمشروع الغربي بشكل عام في المنطقة، الذي يراهن على كون الهند دولة قوية وساحة وئام وسلام، ومن ثم قادرة على موازنة الخصم الغربي الصاعد وهو الصين.
أما هذه التراجعات الهندية، فستقود إلى تراجع المشروع التعددي الثقافي وبروز اليمين الهندوسي المتطرف، وسيستلزم انعكاسات مباشرة على الأرض بعجز الهند عن مواجهة الصين، وهو ما ألمحت إليه مؤخراً.
ويأتي على رأس ذلك كله تفجّر الصراعات والتناقضات الهندية الداخلية، وما أكثرها مع السياسة الهندية الحاكمة اليوم والمشجعة على الصدام لا على الوئام.
الانتحار الحقيقي يكون بالانقلاب على الذات، والانتحار الهندي هو الانقلاب على الشرعية الهندية التي قامت طوال قرن كامل، وهي شرعية التعدّدية الثقافية والدينية والديمقراطية.
أما الآن، فالحزب الهندوسي المتطرف الحاكم ينقل شرعيته الحزبية المتطرفة ليفرضها على دولة بحجم خُمس سكان العالم.
حينها يستطيع أن يلمس أي مؤرخ منصف وعالم اجتماع حقيقي، أن البلد وشرعيته التاريخية في خطر، ومن ثم فحالة الإجماع الوطني الهندي السابقة غدت في مهبّ الريح.
اضف تعليقا