تواصل القوى الخارجية مشاركتها العميقة في الحرب الأهلية متعددة الأوجه في ليبيا، فمن جهة كثفت تركيا دعمها للقوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة ومقرها طرابلس، ومن جهة أخرى يبذل مجلس النواب الموجود في “طبرق” والمتحالف مع الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، قصارى جهده للحصول على دعم من العديد من الدول العربية وفرنسا وروسيا وإسرائيل، وهي صراعات تجعل من ليبيا ساحة صراع كبرى بين القوى الأجنبية المختلفة التي تسعى إلى فرض رؤاها وأيديولوجياتها للهيمنة على ليبيا.
منذ بدء الحرب الأهلية الليبية، لعبت مصر دوراً مؤثراً، وإن كان متناقضاً، حيث قامت بدعم خليفة حفتر الذي قاد انقلاباً في طرابلس في فبراير/شباط 2014، على الرغم من رفض الكثير من الليبيين لوجوده، ومع ذلك، وقفت القيادة المصرية إلى جانب خليفة حفتر، واحترمت تواجده، خاصة بعد أن أصبح شرق ليبيا وكراً للعناصر المتطرفة، وهو ما زعمت السلطات المصرية أن حفتر هو المناسب للقضاء عليهم.
وفقًا لهذه الرواية المصرية، فإن خليفة حفتر، القائد الليبي صاحب الجنسية الأمريكية، والمسؤول السابق في نظام القذافي، يمثل جنباً إلى جنب مع قوات الجيش الوطني الليبي الحصن الوحيد ضد التطرف في ليبيا، خاصة في ظل الدعم السياسي القوي الذي يتلقاه من المواطنين في بنغازي وأجزاء أخرى من شرق ليبيا، والذين يعتبرونه أفضل مقاوم للجماعات الإرهابية، وهي ذاتها الأسباب التي يدعمه المسؤولون في مصر لأجلها.
عملية الكرامة
في مايو/أيار 2014، عندما قاد حفتر معركة “عملية الكرامة”، كانت مصر أول الدول الداعمة للجيش الوطني الليبي في تلك المعركة، ومع هذا، لم يكن لدى المصريين أي نية لتمويل “حملة” حفتر بسبب مواردهم المحدودة، لذلك، سعوا وبكل جدية لجذب مزيد من المؤيدين لحفتر يمكنهم تمويل قواته ضد ما يسمونهم “الأعداء”.
الإمارات العربية المتحدة كانت من أبرز الدول التي سعت مصر لاجتذابها لتأييد وتمويل حفتر، خاصة وأن “جيوبها” يمكن أن توفر دعماً أكبر بكثير من الدعم المصري، وبالفعل، بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على معركة “عملية الكرامة” أصبحت الإمارات هي الممول الرئيسي للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر.
وبحلول أغسطس/آب 2014، أصبح المصريون والإماراتيون أصحاب نفوذ قوي في ليبيا يمكنهم من التدخل المباشر في الشؤون الداخلية، ووفقاً لأحد الخبراء الليبيين فإن القاهرة كانت سعيدة بهذه النتيجة حتى أنها سمحت للدول الأخرى المؤيدة لحفتر باستخدام غرب مصر لخدمة أهداف حفتر، وفي المقابل تقوم أبو ظبي بتسديد فاتورة تسليح الجيش الوطني الليبي.
الدور المصري لم يتوقف عند حد اجتذاب الإماراتيين وحسب، بل قامت مصر في فبراير/شباط 2015 بإقناع روسيا أن حفتر يستحق فرصة، وأن الكرملين بحاجة إلى التفكير بجدية في فوائد تقديم الدعم له.
من ناحية أخرى، ضاعفت فرنسا من دعمها لحفتر العام الماضي بصورة ملحوظة، وهي خطوة تُعزى إلى الجهود المصرية الإماراتية التي بُذلت لإقناع باريس بأن دعم الجيش الوطني الليبي هو الطريقة الأكثر حكمة لمعالجة الحرب الأهلية الليبية والتهديد الذي تشكله على الأمن الأوروبي.
الجهود المصرية المبذولة لدعم حفتر تقتصر على جذب الدعم الدولي وفقط، فنقاط القوة والضعف للجيش الوطني الليبي معلومة بصورة واضحة للمسؤولين في القاهرة، والذين يؤمنون بأن الجيش الوطني الليبي في وضع لا يسمح له بتحقيق أي نصر عسكري على حكومة الوفاق الوطنية وحلفائها، حيث ينظر المسؤولون المصريون إلى الجيش الوطني الليبي باعتباره مجموعة شاملة غير نظامية تضم العديد من الفصائل، مثل القوى السلفية المتشددة، والذي يفضل المصريون ألا يكونوا في المشهد السياسي وألا ينضموا إلى الحكومة الليبية المستقبلية.
كان هدف القيادة المصرية من دعمها لحفتر في بداية الحرب الأهلية الليبية هو أن يقوم بالسيطرة على كل ليبيا، إلا أنه ومنذ أواخر 2018، بدأوا بدفع حفتر نحو إيجاد تسوية سلمية للحرب الأهلية الليبية التي هو طرف رئيسي فيها، في الوقت نفسه، يقوم المسؤولون في أبو ظبي والرياض بتشجيع حفتر على شن حملة قوية للسيطرة على طرابلس ومصراتة وأجزاء أخرى من ليبيا واقعة تحت سيطرة قوى محلية أخرى غير الجيش الوطني الليبي.
اهتمام مصر بغرب ليبيا
تدرك القاهرة أن دولة الإمارات العربية المتحدة تدعم استمرار الحرب وستواصل دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر مادياً حتى يحقق أهدافه، ومع ذلك لا تتوقع مصر من الإماراتيين أن يقوموا بإعادة بناء ليبيا بمجرد انتهاء الحرب الأهلية، بل ترى مصر نفسها أن هذا الدور منوط بها وحدها أكثر من غيرها، ولعل هذا هو السبب وراء الخلاف الواضح في الأولوليات بين القاهرة وأبو ظبي فيما يتعلق بغرب ليبيا.
لا يمثل شرق ليبيا سوى ثلث السكان تقريباً، في حين أن غرب ليبيا، فضلاً عن الكثافة السكانية به، فهو مقر البنك المركزي الليبي والشركة الوطنية للنفط، ما يجعله مكاناً مناسباً لإيجاد فرص عمل حقيقية للعمال المصريين بمجرد استقرار البلاد، لذلك، لدى مصر حافز قوي لتثبيط أي استراتيجية من شأنها أن تجعل حفتر يتخلى عن غرب ليبيا، والاكتفاء ببنغازي وبقية المناطق التي تسيطر عليها قوات الجيش الوطني الليبي.
لهذا السبب ، ترى القاهرة أن حفتر كان يجب عليه تجنب “عملية تحرير طرابلس” المستمرة والسعي بدلاً من ذلك إلى السبل الدبلوماسية للسيطرة على طرابلس.
على الرغم من المخاوف المصرية من هجوم الجيش الوطني الليبي على طرابلس، والذي شنه حفتر في 4 أبريل/نيسان الماضي، لا تجد القاهرة أمامها خيار آخر سوى دعم هذا الهجوم، ومن ناحية أخرى، تنتاب المصريين مخاوف أخرى بسبب الحملة المضادة لحفتر والمنتشرة في غرب، والتي قد تتسبب في إضعاف قبضة حفتر على السلطة في شرق ليبيا، مما قد يخلق ثغرات في السلطة تهدد الأمن المصري، وعليه، واصلت القاهرة تزويد الجيش الوطني الليبي بالدعم العسكري والعسكري على أمل منع هذه الفرضية، خاصة مع وجود عقوبات من الأمم المتحدة.
على الرغم من التكهنات بأن الحكومة المصرية ستتخلى عن حفتر بسبب الإحباطات التي سببها لهم، فإن المخاوف الأمنية والاقتصادية تشير إلى أن القاهرة ستواصل رعاية الجيش الوطني الليبي ما دامت الحرب الأهلية في ليبيا مستمرة حيث لا زال الجيش الوطني الليبي في نظرهم هو الممثل الوحيد الذي يمكنه تحقيق الاستقرار في ليبيا، والذي أثبت قدرته على شطب الجماعات الإسلامية من المناطق الحيوية الاستراتيجية.
إن صعود حفتر إلى السلطة في ليبيا يشبه صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر، ويتفق الرجلان على أهداف سياسية مشتركة ومتماثلة، مع إيمانهما بضرورة وجود جيش قوي من أجل تحقيق تلك الأهداف.
لقد اتخذ كلاهما موقفا متشددا ضد الإسلام السياسي، علنا على الأقل، ولكل منهما رؤية لتخليص ليبيا ومصر بشكل دائم من جماعة الإخوان المسلمين، لذلك، وبفضل خلفياتهم السياسية والعسكرية وجداول أعمالهم المشترك، يعد حفتر والسيسي شريكين طبيعيين فيما يعتزمان أنه كفاح ضد التطرف.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا