في أكتوبر/تشرين الأول، فاز رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد” بجائزة “نوبل” للسلام، عن عمله في بدء مفاوضات السلام مع إريتريا، لكن بلاده لا تزال في خضم نزاع رئيسي آخر يهدد الاستقرار الإقليمي.
ويقع هذا النزاع فوق مياه نهر النيل، وبالتحديد، بسبب خطط إثيوبيا لبناء “سد النهضة الإثيوبي العظيم”، على روافد النيل الأزرق.
وفي حين تعتبر مصر أن السد يشكل تهديدا وشيكا لبقائها، ترى إثيوبيا أن السد ضروري للتنمية في البلاد، وتعهدت بمواصلة المشروع بغض النظر عن التداعيات.
وتعد إثيوبيا ومصر من أكثر دول إفريقيا قوة من حيث عدد السكان، وتشكل أي مواجهة مستمرة بينهما تهديدا كبيرا للسلام، ولهذا السبب، يجب على المجتمع الدولي الضغط من أجل تسوية منصفة.
وقد عبر كلا البلدين عن تفضيلهما لتسوية طويلة الأجل متفاوض عليها للنزاع، لكن الطريق إلى مثل هذه التسوية لم يكن سلسا، وفشلت جولة من المفاوضات في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، بعد العديد من المفاوضات الأخرى خلال الأعوام القليلة الماضية، في التوصل إلى حل وسط.
وتتهم مصر إثيوبيا بتجاهل المخاوف التي أثارها مسؤولوها بشأن تهديد أمنها المائي، فيما تصر إثيوبيا على أنه سيتم حل القضايا المعلقة قبل الانتهاء من السد.
وفي هذه الأثناء، كان هناك دولتان أخريان، وهما روسيا والولايات المتحدة، تبحثان عن طرق للتوسط في النزاع.
وقد عقد “آبي” والرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” اجتماعا على هامش القمة الروسية الإفريقية في سوتشي بروسيا، في أواخر أكتوبر/تشرين الأول، حيث اتفقا خلالها على السماح للجنة الفنية بمواصلة عملها.
وتعهد مضيفهما، الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بمساعدتهما في الوصول إلى حل.
وقد دعت الولايات المتحدة مصر وإثيوبيا والسودان، التي تتأثر أيضا بالنزاع، لإجراء مناقشات في واشنطن.
واستقر وزراء خارجية الدول الثلاث في اجتماع ثلاثي، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، حضره أيضا وزير الخزانة الأمريكي “ستيفن منوشين” ورئيس البنك الدولي “ديفيد مالباس”، على عقد 4 اجتماعات فنية حول السد.
وقالوا إنهم يأملون في التوصل إلى اتفاق بحلول 15 يناير/كانون الثاني، لكن إذا فشل ذلك، فإن وزراء المياه في تلك الدول سيحيلون القضية إلى رؤساء دولهم للحصول على مزيد من الوساطة الخارجية.
ومن الصعب معرفة ما إذا كان تدخل واشنطن سيساعد في التوصل إلى اتفاق قبل الموعد النهائي الجديد.
جذور النزاع
ويُعتبر نهر النيل أهم مورد طبيعي بالنسبة إلى 10 دول على الأقل تتاخم النهر ورافديه الأبيض والأزرق، وهي بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وإثيوبيا وكينيا ورواندا وجنوب السودان والسودان وتنزانيا وأوغندا.
لكن النزاع الحالي لا يشمل سوى مصر وإثيوبيا والسودان، ويدور حول استخدام إثيوبيا للنيل الأزرق، وهو الرافد الأكبر، الذي ينبع من بحيرة “تانا” الإثيوبية، ويعبر إلى السودان، ثم ينضم إلى النيل الأبيض في الخرطوم، عاصمة السودان، في رحلته شمالا عبر مصر إلى البحر الأبيض المتوسط.
وأسس اتفاقان تم توقيعهما عامي 1929و1959 طريقة تقاسم مياه النيل حتى الآن.
وتم توقيع المعاهدة الأنجلو مصرية عام 1929 من قبل المملكة المتحدة، القوة الاستعمارية التي سيطرت آنذاك على معظم أنحاء شرق إفريقيا، ومصر الملكية، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، لتخصيص حقوق المياه على طول الحوض.
ووفقا لهذه المعاهدة، تم ضمان إمداد سنوي لمصر يقدر بـ48 مليار متر مكعب من المياه، و4 مليارات متر مكعب للسودان، من إجمالي سنوي يقدر بـ 84 مليار متر مكعب من مياه النيل.
وزاد اتفاق آخر في عام 1959 بين المملكة المتحدة ومصر المستقلة من حصة مصر إلى 55.5 مليار متر مكعب، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب.
وأكدت المعاهدة الجديدة أيضا على بند أساسي من اتفاقية 1929 يمنح مصر الحق في الاعتراض على أي مشاريع بناء قد تعيق تدفق المياه عبر النيل.
وقد زرعت بنود الاتفاقين بذور نزاع اليوم، حيث افترض هؤلاء الذين تفاوضوا في الاتفاقين، أن إثيوبيا، وفي الواقع جميع الدول الواقعة على طول النهر بخلاف مصر والسودان، لن تواجه مشكلة في الالتزام بالشروط وكذلك في وصول الماء الكافي لسكانها.
وفي الواقع، أدت التوقعات الديموغرافية الحديثة لمبادرة “حوض النيل” لعام 2050، أن عدد سكان مصر والسودان سوف يكون أقل بكثير من عدد السكان في بعض البلدان الثمانية الأخرى الأعضاء في المبادرة، مما يجعل اتفاقيات المياه القديمة تبدو أقل عدلا كل يوم.
وهكذا، لم يكن مفاجئا أن تعلن إثيوبيا في عام 2011 عن خطط لبناء سد كبير للطاقة الكهرومائية بقيمة 5 مليارات دولار على النيل الأزرق بالقرب من الحدود بين إثيوبيا والسودان.
وسوف يحتوي خزان سد النهضة الإثيوبي على ما يصل إلى 67 مليار متر مكعب من المياه، وسيستغرق ملؤه 7 أعوام على الأقل، مما يقلل من تدفق النهر بنسبة لا تقل عن 25%.
وبالنسبة لإثيوبيا، يعتبر السد ضرورة قصوى لتلبية احتياجاتها من المياه والتنمية الاقتصادية، حيث من المقرر أن يزود البلاد بأكثر من 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء، وهي ضرورية للتنمية الزراعية والصناعية في البلاد.
لكن السد في المقابل سيكون مدمرا لمصر، التي تعتمد على النهر للري وصيد الأسماك والنقل.
واقترحت مصر في آخر مفاوضات أن يتم ضمان ما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب من المياه سنويا لها، وأن تستغرق إثيوبيا وقتا أطول لملء خزانها.
وفي المقابل، عرضت إثيوبيا 31 مليار متر مكعب فقط على مصر، وهو ما يزيد قليلا عن نصف الكمية التي تضمنها اتفاق 1959.
ولا يقترب مثل هذا العرض حتى من تلبية الحدود الدنيا لاحتياجات مصر، ناهيك عن تلبية فخرها القومي كواحدة من أكثر دول القارة الأفريقية قوةً ونفوذا تاريخيا.
من جانبها، تعد السودان أقل قلقا بشأن حصتها بسبب إمداداتها من مياه الأمطار.
الخيار العسكري
وتثير الهوة بين مواقف البلدين، تساؤلات جدية حول إمكانية القيام بعمل عسكري مصري لمعالجة ما يعتبره الاستراتيجيون المصريون تهديد الأمن القومي الأكثر إلحاحا في البلاد.
فبعد كل شيء، كان نهر النيل شريان الحياة في البلاد منذ زمن سحيق، فيما يعاني اقتصاد مصر في الوقت الحالي تحت وطأة ضعيف بشكل محزن.
وبالنسبة للبعض في وسائل الإعلام التابعة للحكومة المصرية، يبدو أن العمل العسكري هو الخيار المفضل عن الدبلوماسية، إذا لم يكن لسبب آخر فلإعطاء الانطباع للمصريين بأن قواتهم المسلحة تبحث عن مصالح الشعب.
وألمح “آبي” نفسه إلى مثل هذا الاحتمال، في 22 أكتوبر/تشرين الأول، عندما قال إن بلاده مستعدة لإرسال ملايين الجنود لحماية السد إذا اندلعت الحرب.
لكن العمل العسكري سيكون حماقة، فإلى جانب كونه كابوسا لوجستيا وتشغيليا، فمن غير المرجح أن يسفر عن النتائج التي قد ترغب فيها مصر، دون احتلالٍ دائمٍ لمنطقة السد، وهو ما لا يمكن الدفاع عنه مع تداعيات دولية وخيمة.
وبدون ذلك، سوف تظل إثيوبيا تسيطر على مياه النهر، ويمكنها أن تضع مخططات لا حصر لها لتحويلها.
وهذا هو السبب في أن إزالة التصعيد والوساطة الدولية أمران ضروريان.
ويمكن للمجتمع الدولي، باستخدام الخبرة الفنية من الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمات أخرى متعددة الأطراف، وضع خطة وسيطة تتناول المخاوف العاجلة دون تلبية مطالب الطرفين بالكامل.
ويمكن أن تتضمن هذه الخطة إقناع إثيوبيا بتلبية طلب مصر للحصول على 40 مليار متر مكعب سنويا، ومساعدة الأخيرة على تطوير أنظمة ري حديثة بديلة لتقليل استخدام المياه، ومساعدتها في بناء محطات لتحلية المياه.
وفي مقابل إبطاء ملء سد إثيوبيا، يمكن للمانحين الدوليين المساعدة مؤقتا في تلبية احتياجات البلاد من الكهرباء عن طريق تمويل محطات الطاقة العائمة في البحر الأحمر، التي يمكن نقل طاقتها عبر إريتريا والصومال وكينيا.
ومن شأن مثل هذا الجهد أن يشمل أصدقاء مؤثرين لكلا البلدين، مثل الولايات المتحدة وروسيا، لتطبيق الضغط المناسب وتقديم الحوافز.
ويحتاج أي حل وسط أيضا إلى إشراك دول حوض النيل، لأن الاتفاقية المطلوبة من المرجح أن تؤثر عليها جميعا.
وفي الواقع، يجب أن يسعى الحل الوسط إلى تحقيق الوفاق الإقليمي الذي قد يستند إلى تبادل حقوق وامتيازات المياه مع السلع الكهربائية والسلع الزراعية والصناعية، وهو ما يمكن لجميع بلدان شرق إفريقيا أن تستفيد منه في نهاية المطاف.
اضف تعليقا