لم تقتصر الآثار السلبية لأحداث سبتمبر/ أيلول الماضي في مصر التي أصابت النظام، منذ ظهور المقاول الممثل محمد علي ودعوته إلى التظاهر واستجابة آلاف المواطنين لها وقمعهم، على اشتعال الخلافات بين الدوائر والشخصيات البارزة في النظام، وسيطرة حالة من الشك على الجبهة الداخلية للأجهزة السلطوية، بل امتدت لتربك علاقات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الخارجية وتعطل بعض الخطط التي كان يُعد لها أو يُمضي قدماً في تنفيذها على المستوى الإقليمي، خصوصاً بشأن الأوضاع في ليبيا والسودان، وكذلك ملفات التعاون مع الدول الأوروبية.
في السياق، ذكرت مصادر دبلوماسية في ديوان الخارجية المصرية لـ”العربي الجديد” أنه على الرغم من خروج السيسي من أزمة سبتمبر محافظاً على السلطة وأكثر تشبثاً بها رغم المشاكل الداخلية في دائرته الحاكمة، إلا أن أعطالاً عدة أصابت ملفاته الإقليمية، بسبب شحذ جهود جميع الأجهزة لتحقيق ما سمّاه السيسي “لملمة الفوضى وقصّ ذيول ما حدث” في أول لقاء عقده برئيس الحكومة ووزراء الحقائب السيادية ومدير المخابرات عباس كامل، بعد عودته من نيويورك إثر مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبحسب المصادر، فإن الملف الليبي يعتبر الأكثر تضرراً، مع رفض السيسي استقبال اللواء المتقاعد الليبي خليفة حفتر رسمياً مرتين خلال تلك الفترة، ليس فقط لانشغاله بالمشاكل الداخلية، ولكن لتفضيله عدم اتخاذ أي خطوات قد تثير مشاكل مع أي طرف إقليمي له رؤية مغايرة لما يجري في ليبيا أو لمستقبل حفتر نفسه في معادلة الصراع هناك، واحتمال تأثير ذلك بنحو غير مباشر في دعم تلك الأطراف الإقليمية له في الأزمة الداخلية، التي يؤمن السيسي بأنه كان من الممكن أن تتفاقم لولا عدم تحمس الأطراف الإقليمية والدولية لتغيير عنيف ومفاجئ في نظام الحكم بمصر.
مقاربة السيسي للملف الليبي ظلّت سرية منذ أغسطس/ آب الماضي وحتى الآن، سواء بالطرق المعتادة لدعم مليشيات حفتر بتدريب العناصر والإمداد بالأسلحة والذخائر والمواد الغذائية، أو في صورة دبلوماسية بحتة عبر حضور وزير الخارجية سامح شكري اجتماعات دولية عدة لمناقشة الأزمة، غير أن المقاربة كانت مغايرة منذ بدء حملة حفتر على طرابلس في إبريل/نيسان الماضي، التي تمحورت حول خروج السيسي والرئاسة المصرية بتصريحات دورية، أسبوعياً تقريباً، تعبيراً عن دعم مصر “المطلق” لجهود حفتر للقضاء على الإرهاب.
وأوضحت المصادر أن المشكلة الأبرز في هذا السياق مرجعها العلاقة بين السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد. وعلى الرغم من العلاقة القوية والشخصية بين الاثنين، إلا أن هناك دوائر عديدة في دبي وأبو ظبي، حاولت تفكيك تلك العلاقة أو إضعافها، لاعتبارها في لحظات أن السيسي عبء على الإمارات مادياً وسياسياً، ارتباطاً بملفات مختلفة أبرزها التعاون الاقتصادي والاستثماري والتصرف المصري غير الموثوق في المساعدات الإماراتية، وهو أمر سبق أن نشرت “العربي الجديد” تقريراً مفصلاً عنه هذا الشهر قبل أسبوع من زيارة السيسي الأخيرة لأبوظبي. ومن الملفات أيضاً ما يتعلق بإشكالية رهان السيسي المطلق على حفتر وتعطيل محاولات إماراتية لإنتاج قيادات جديدة ليبية، قد تكون أكثر قدرة على حسم الموقف والتصرف برشد مع التدفقات المالية الكبيرة التي تضخّها الإمارات في ليبيا من دون عائد يذكر.
وذكرت المصادر أن الدوائر الإماراتية تابعت من كثب أزمة سبتمبر الماضي في مصر، وتواصلت مع العديد من الشخصيات السياسية داخل النظام وخارجه، على رأسهم مدير المخابرات عباس كامل وعدد من الإعلاميين، لاستطلاع آرائهم في ما يحدث وآفاقه. وبعد معرفة السيسي بهذه الاتصالات أمر باتخاذ سلسلة من الإجراءات “التطمينية” لتلك الدوائر، بدأت بدعوة عدد من رجال الأعمال الإماراتيين لزيارة المشاريع الجديدة، ثم إعلان فتح مجال الاستثمار في شركات الجيش ومشاركته في مشاريع استراتيجية كتحلية المياه، ثم زيارته الأخيرة لأبوظبي التي وصفها أحد المصادر بأنها “للترضية في المقام الأول”.
وبناءً على تلك الاعتبارات، يصبح مفهوماً التغيّر الظاهري الذي طرأ على علاقة السيسي بحفتر، بل وأكثر من ذلك. وروى أحد المصادر بالخارجية أنه في مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي طلبت مصر من الخارجية الألمانية إرجاء المناقشات حول مؤتمر برلين بشأن ليبيا “لحين عودة الأمور إلى نصابها في مصر”، متحججة بأن “جدول السيسي مكتظ بالمقابلات ذات البعد المحلي”. وهو ما حصل، قبل بدء المحادثات الرسمية حول المؤتمر بزيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس للقاهرة نهاية الشهر الماضي.
التأثير السلبي نفسه تكرر في الملف السوداني. وبحسب المصادر، تباطأت إلى حد كبير وتيرة الاتصالات بين السيسي وعضو مجلس السيادة السوداني، قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي يُعَدّ الرجل العسكري السوداني الأقرب للرئيس للمصري، وذلك منذ اندلاع الأزمة في مصر. ولم يقتصر تراجع الاتصالات على المستوى الشخصي فقط، بل أيضاً على مستوى الدعم الاستخباراتي والاستشاري الذي كانت تقدمه المخابرات المصرية بنحو مستمر للمخابرات العسكرية السودانية، وهي الجهاز السوداني الأكثر التصاقاً بنظام الحكم في مصر.
“أحد المصادر الحكومية زار العاصمة السودانية الخرطوم، قبل اتفاق وضع مسودة الدستور، بصحبة مسؤولين مصريين استخباراتيين، قال لـ”العربي الجديد”، إن من أسباب هذا التباطؤ حدوث تغييرات في الشهر الماضي بهيكل المكتب الخاص بالسودان في المخابرات العامة بقرار من عباس كامل، فنُقل بعض أعضاء المكتب الفاعلين وذوي الخبرة إلى هيئة الأمن القومي المختصة بالرقابة الاستخباراتية الداخلية، ونُقل أعضاء جدد أقل خبرة من مكاتب الشؤون الأفريقية، في انعكاس غير مباشر على الملف بسبب الأحداث.
وأضاف المصدر أن عدداً من الضباط الاستخباراتيين المقرّبين من عباس كامل، الذين كانوا يقيمون بصفة مؤقتة على فترات في الخرطوم لمتابعة الموقف بالتزامن مع المفاوضات بين المجلس العسكري والكيانات الثورية برعاية إثيوبية وقارية، استُدعوا أيضاً خلال الأزمة ولم يعودوا إلى الخرطوم مرة أخرى، ما أضعف التدخل المصري في الشؤون السودانية حالياً، واقتصاره أكثر على الجانب التنفيذي. وثمة تأثير آخر تقيسه المصادر على مستوى الحراك الدبلوماسي في العواصم الأوروبية والعربية بعد الأزمة، فانشغال دائرة السيسي الاستخباراتية بقيادة نجل الرئيس، محمود السيسي، وعباس كامل بالأحداث الداخلية، تطلّب وقف الحراك الخارجي لتلك الدائرة، التي كان السيسي يعتمد عليها كظهير أساسي للنشاط الدبلوماسي في السنوات الماضية، وتحديداً في ملفات ذات أولوية استراتيجية، كالمفاوضات التي كانت متواصلة بشأن الدعم الأوروبي لمصر لاستضافة المهاجرين وتقليل نسب الهجرة غير النظامية لأوروبا، والتعاقدات مع شركات علاقات عامة ووسائل إعلام لتحسين صورة النظام في الخارج، والتنسيق مع اليونان وقبرص وإسرائيل في ملف منتدى شرق البحر المتوسط للغاز والمعركة مع تركيا في هذا الإطار.
ونتيجة وقف هذا الحراك الاستخباراتي وتركيز الجهود على الداخل، صدرت تعليمات من السيسي لوزير الخارجية سامح شكري بتكثيف جهوده لتعويض ذلك النقص، فشُكِّلَت فرق دبلوماسية لمتابعة بعض الملفات على نحو عاجل، لم يُرضِ أداؤها السيسي وعكس حسب اعتقاده ضعفاً في هيكلية الخارجية وديوانها تحديداً، ما جعله يفكر للمرة الأولى في تغيير شكري ضمن التعديل الحكومي المرتقب. وبحسب المصادر، فإنه على الرغم من المجهود الكبير الذي بذله شكري منذ سنوات، إلا أن السيسي يعتقد أن الوزارة في حاجة لـ”قيادة أكثر حيوية” وتداول هذا الرأي في أوساط السلك الدبلوماسي خلال الأيام الماضية، ما يرجّح اختيار وزير شاب من بين سفراء مصر الحاليين في الخارج وممثليها في المنظمات الدولية.
اضف تعليقا