منذ قيامها، عام 1948، على أراضٍ فلسطينية محتلة، تمثل سياسة الاغتيالات والتصفية الجسدية ركنًا راسخًا في العقيدة الأمنية لـ(إسرائيل)، تضع به حدًا لحياة من تعتبرهم خطرًا على أمنها، دون التفات لأية تبعات سياسية ولا قانونية.

لم تمضِ سوى بعضة أشهر على إعلان قيامها، حتى شقّت الاغتيالات طريقها إلى تاريخ (إسرائيل)، حين اغتالت عصابات صهيونية وسيط الأمم المتحدة بين العرب واليهود، الكونت “فولك برنادوت”، الذي كان يقترح أفكارًا للسلام، تضمنت وضع حد للهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية، وبقاء القدس تحت السيادة العربية.

ومنذ اغتيال الكونت “برنادوت” لم تتوقف الاغتيالات، وأحدثها في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حيث اغتالت (إسرائيل) المسؤول العسكري بحركة “الجهاد الإسلامي” في قطاع غزة، “بهاء أبوالعطا”؛ بعد اتهامه بالوقوف خلف إطلاق صواريخ باتجاه (إسرائيل).

وتزامن اغتيال “أبوالعطا” مع محاولة اغتيال “أكرم العجوري”، عضو القيادة السياسية لحركة الجهاد، بقصفٍ استهدفه في العاصمة السورية دمشق، لكنه نجا منه، بينما استُشهد نجله ومرافقه.

 

38 عملية سنويًا

خلال 71 عامًا، نفذ الإسرائيليون أكثر من 2700 عملية اغتيال (بمعدل 38 عملية سنويًا) داخل وخارج (إسرائيل)، بحسب الكاتب والخبير الإسرائيلي، “رونين برغمان”، في مقابلة مع موقع “تايم أوف إسرائيل”، نُشرت في 30 يناير/كانون الثاني 2018.

وتتفوق (إسرائيل) في عدد عمليات الاغتيال على أية دولة أخرى، متجاهلة الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين والمواثيق الدولية.

ورأى “برغمان” أن الاغتيالات جزء من سياسة إسرائيلية سرية تستهدف محاولة توسيع الفجوة الزمنية بين الحروب.

وأضاف أن القادة الإسرائيليين اعتقدوا أنها “كانت أداة مُفيدة لتغيير التاريخ، أو القيام بشيء ما دون اللجوء إلى الحرب”.

 

اغتيالات متنوعة

لم تقتصر الاغتيالات على القادة والناشطين العسكريين، إذ نالت من قادة سياسيين وعلماء وأدباء، ولم تفرق (إسرائيل) في مسارح الاغتيال بين دولة عربية أو أجنبية، صديقة أو عدوة.

وغالبًا، لا تعترف (إسرائيل) رسميًا بمسؤوليتها عن الاغتيالات خارج الحدود، وعادة يأتي الاعتراف عبر صحفيين وكُتاب ووسائل إعلام إسرائيلية، بعد سنوات من الاغتيال.

في يوليو/تموز  1972، اغتالت (إسرائيل) الأديب والصحفي الفلسطيني، “غسان كنفاني”، (قيادي بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، عبر تفجير سيارته في بيروت بعبوة ناسفة.

وفي مارس/آذار 1979، اغتال جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) القيادي بالجبهة الشعبية، “وديع حداد”، في أحد فنادق ألمانيا الشرقية، عبر وضع كمية من السّم في إحدى قطع شوكولاتة كان يُفضلها.

 

عمليات مكثفة

خلال إقامة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ثم تونس، بين سبعينات وثمانينات القرن الماضي، اغتال “الموساد” قادة سياسيين وعسكرين، أبرزهم: “خليل الوزير”، “صلاح خلف”، “كمال عدوان”، “أبو يوسف النجار”، “هايل عبدالحميد”، وغيرهم.

عربيًا، اغتالت (إسرائيل) أمين عام جماعة “حزب الله” اللبنانية، “عباس الموسوي”، في فبراير/شباط  1992، بقصف سيارته بصواريخ في بلدة تفاحتا جنوبي لبنان؛ ما أدى إلى مقتله هو وزوجته ونجله.

وإلى مالطا، أرسل “الموساد” أفضل  وحداته، وهي “كيدون” المتخصصة بالاغتيال، في أكتوبر/تشرين الأول 1995، صوب الأمين العام السابق لحركة الجهاد، “فتحي الشقاقي”، فقتلته بطلقات نارية في الرأس.

وفي يناير/كانون الثاني 1996، تمكنت (إسرائيل) من رأس “يحيى عياش”، مهندس كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة “حماس” في الضفة الغربية، عبر تفجير عن بُعد لهاتف خلوي كان يستخدمه، في أحد المنازل شمالي غزة.

 

عمليات فاشلة

رغم النجاح الكبير لمعظم عمليات الاغتيال، لكن الفشل اعترى بعضها، فبعد سنواتٍ من توقيع معاهدة “وادي عربة” للسلام بين الأردن و(إسرائيل) (1994)، لم تُلقِ الأخيرة بالاً للمعاهدة، حين حاولت، في سبتمبر/أيلول 1997، اغتيال “خالد مشعل”، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، المقيم في المملكة.

حقنت خلية من “كيدون” مشعل بمادة سامة مَكَث على أثرها في العناية المُركزة، وفُضح أمر الوحدة واعتُقل اثنان من عناصرها، ما أشعل غضب ملك الأردن آنذاك، “الحسين بن طلال”، الذي أصرّ على تسليم (إسرائيل) المصل المضاد للسّم لإنقاذ حياة “مشعل”، وكان له ذلك.

على مدار 30 عامًا، فشلت (إسرائيل) في اغتيال القائد العام لكتائب القسام، “محمد الضيف”، في غزة، حيث حاولت 3 مرات التخلص منه بقصفٍ جوي، أحدثها في حرب 2014 (قُتلت فيها زوجته وطفله)، وما زال الضيف حيًا.

 

منحنى متصاعد

مع اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000، بدأت مرحلة جديدة من تصاعد العمل المسلح، الذي قادته الفصائل الفلسطينية.

وكثّفت (إسرائيل)، بقيادة “أرئيل شارون”، عمليات الاغتيال للعشرات من قادة الفصائل وناشطي الانتفاضة.

ومن أبرز الشخصيات السياسية التي تم اغتيالها: الشيخ “أحمد ياسين”، زعيم حركة “حماس”، وخليفته في غزة، “عبدالعزيز الرنتيسي”، و”أبوعلي مصطفى”، الأمين العام للجبهة الشعبية، والقياديون في “حماس”، “إسماعيل أبوشنب”، و”إبراهيم المقادمة”، و”جمال منصور”، و”جمال سليم”.

كما اغتالت عشرات القادة العسكريين، أبرزهم قادة كتائب “القسام” و”الأقصى”: “صلاح شحادة”، “عدنان الغول”، “محمود أبوالهنود”، “رائد الكرمي”، و”جهاد العمارين”.

 

عرّاب الاغتيالات

وفق الكاتب الإسرائيلي “برغمان” فإنه في خضم الانتفاضة عام 2002، ونتيجة للعمليات التفجيرية في (إسرائيل)، “كانت الدولة مشلولة تمامًا، وعلى حد الإفلاس، وكانت تل أبيب مدينة أشباح”، و”لكن قرارات شارون، التي اعتمدت في المقام الأول على الاغتيالات، أنقذت (إسرائيل)”.

ولمدة عامين، حاصرت (إسرائيل) الرئيس الفلسطيني، “ياسر عرفات”، في رام الله حتى توفي في ظروف غامضة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، بعد نقله لتلقي العلاج في فرنسا.

وأفادت فحوصات طبية وتحقيقات صحفية بأن سبب الوفاة كان حقنه بمادة “البولونيوم” السامة.

 

تفعيل من جديد

خلال العقد الأخير، وفي العهدة الثانية لـ”بنيامين نتنياهو” في رئاسة الحكومة، فعلت (إسرائيل) عمليات الاغتيال عبر جهازي “الشاباك” و”الموساد”.

ففي يناير/كانون الثاني 2010، وفي أحد فنادق مدينة دبي، اغتال “الموساد” القيادي بكتائب “القسام”، “محمود المبحوح”؛ لوقوفه وراء إمدادات الدعم العسكري للمقاومة في غزة.

وخلال الحروب على غزة، أعوام 2008، 2012، و2014، نالت الطائرات الإسرائيلية من قيادات بحركة “حماس”، هم: “سعيد صيام”، “نزار ريان”، بجانب القادة العسكريين: “أحمد الجعبري”، و”رائد العطار”، و”محمد أبوشمالة”.

وفي بلغاريا، لم يشفع لـ”عمر النايف”، وهو ناشط سابق بالجبهة الشعبية، لجوؤه إلى مقر السفارة الفلسطينية، بعد تلقيه تهديدات بالاغتيال من “الموساد”، إذ وُجد مقتولًا داخل سيارة في 26 فبراير/شباط 2016.

واغتال “الموساد” المهندس التونسي، “محمد الزواري”، في ديسمبر/كانون الأول 2016، أمام منزله بمدينة صفاقس، بإطلاق عناصر من “الموساد” الرصاص عليه.

ولاحقًا، أُعلن أن “الزواري” ينتمى لكتائب “القسام”، ويُشرف على مشروع تصنيع الطائرات من دون طيار.

ولم تسلّم ماليزيا من “الموساد”، إذ اغتال على أرضها “فادي البطش”، في 21 أبريل/نيسان 2018، وهو مهندس كهربائي وأكاديمي مُقرب من حركة “حماس”، التي أصدرت بيانًا بنعيه، متهمة “الموساد” باغتياله.

 

تشكيك بجدوى الاغتيال

اعتماد (إسرائيل) على الاغتيالات يعود إلى أنها سياسة “استباقية” تحبط عمليات مسلحة كانت على وشك قتل إسرائيليين، وفق الخبير الإسرائيلي، “إيلي أشكنازي”، في تحقيق مطول لموقع “واللا” الإسرائيلي، نُشر في 16 نوفمبر/كانون الثاني الجاري.

واعتبر “يورام كوهين”، رئيس “الشاباك” سابقًا، في حديث لصحيفة “معاريف”، في 17 من الشهر الجاري، أن الاغتيالات سلاح فعال في أحيان كثيرة في المستويات القيادية للتنظيمات الفلسطينية.

لكنه استدرك قائلًا إن “ما يحوزه الفلسطينيون في غزة من قدرات صاروخية كبيرة، تجعلنا مردوعين عن تنفيذ اغتيالات فورية بحق قادتهم”.

وانتقد “برغمان” الساسة الإسرائيليين لاعتمادهم المستمر على الاغتيالات، إذ يرى أنها تحقق أهدافًا “بشكل تكتيكي”، لكن ذلك أدى في النهاية إلى “فشل استراتيجي”، حيث إنه “يتم تحقيق الأهداف الاستراتيجية بالحنكة السياسية والخطاب السياسي، وليس بالعمليات الخاصة”.

وخلُص الكاتب “ناتي يافيت”، في حديث لموقع “تايم أو إسرائيل”، في 17 من الشهر الجاري، إلى أن “فعالية الاغتيال ما زالت محدودة على صعيد إضعاف المنظمات الفلسطينية، فالاغتيالات تصلح مع المنظمات الصغيرة، لكن اغتيال القادة السياسيين يبدو أكثر خطورة وآثارًا؛ لأنه يعتبر كسرًا للقواعد العامة”