أمر عبد الناصر ببنائه في أغسطس عام 1959م.. فصار إحدى رمزيات عصره.. منه كان التوجيه، وبه كانت السيطرة على العقول… إنه مبنى الإذاعة والتليفزيون القائم على إحدى ضفتي نيل القاهرة.. وقد سموه ماسبيرو نسبة إلى عالم الآثار الفرنسي جاستون ماسبيرو (بالفرنسية: Gaston Maspero) الذي كان رئيس هيئة الآثار المصرية…

ظل المبى العتيق عنوانا للهيمنة، ومركزا للسيطرة على الجماهير ما يزيد على نصف قرن.. منه انطلقت أهازيج الوطنية، وفي ردهاته ترددت أناشيد التمجيد للحاكم بأمره.. فكان ماسبيرو للعسكر دوما قلعة يحتمون بها من غدر الجماهير إذا استيقظت، مدفعا يطلقون منه طلقات التخدير للعقول والهمم…

لكن يبدو أنه عندهم كخيلهم.. كبر في السن وترهل، وصار أداؤه باهتا، وجاء من هو أفضل منه وأكثر رشاقة.. فلا مانع من إطلاق رصاصة الرحمة عليه.. ليصير جزء من التاريخ.. فلديهم “أذرعهم الإعلامية” الممتدة والتي هي أفضل من هذا الطاعن في السن كثيرا…!!

فهل بالفعل ستتم تصفية ماسبيرو؟ وما هي تفاصيل تلك التصفية؟ وهل هناك دلائل عليها؟ ولماذا يفكرون في التصفية بدل التطوير؟ هل صار المبنى مترهلا بما يكفي لتصفيته؟ وما حجم خسائره؟

الإعلام والسيسي

بداية يمكن القول بأن نظام السيسي قد اعتمد على الإعلام اعتمادا مباشرا منذ اللحظة الأولى، وقد اتضح ذلك من التسريبات التي ظهرت قبيل توليه رئاسة الجمهورية..

وهناك دراسة أصدرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تؤكد أن الإعلام المصري عانى حالة من الاستقطاب خلال حكم محمد مرسي، قبل أن يتولى مهمة الشراكة في إسقاط مرسي والإخوان وتهيئة الساحة للسيسي لتصدر المشهد، بل لاستخدامها بعد ذلك عند اللزوم في تثبيت حكم السيسي ومحاولة احتواء أي إخفاقات يواجهها.

ومن ثم سعى السيسي طوال الوقت إلى خلق أذرع إعلامية وإنشاء قنوات فضائية من أجل تثبيت حكمه في مواجهة المعارضة ، بل وفي مواجهة كل من يحاول أن يطعن في شرعيته ومواجهة قنوات المعارضة في الخارج.

السؤال هنا: ألم يقم ماسبيرو ببعض هذه الخدمة؟ ولماذا التفكير في عدم إدخاله لتلك المعادلة التي يصير بها أحد هذه الأذرع؟

شماعة الإخوان

لم يكتف السيسي بالاستحواذ على الإعلام الخاص بل زحف إلى ماسبيرو، حيث يحاول تصفية المبني والموظفين فيه عبر آليات مختلفة أكثرها ملف الإخوان المسلمين .

التقارير تقول إن ضباطاً وموظفين من الرقابة الإدارية يوجدون بشكل مكثف داخل مبنى التليفزيون المصري “ماسبيرو”، ويراقبون عن كثب كل ما يحدث داخل المبنى، وذلك بحجة أن المبنى يضم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين. لكن الحقيقة أن هناك خطة من هيئة الرقابة الإدارية لتصفية اتحاد الإذاعة والتلفزيون المملوك للدولة بطريقة تدريجيّة.

الإشراف على المبنى ليس فقط مطمع الرقابة الإدارية بل أنها تنوي إدارة القناة الأولى كمرحلة أولى من الخطة، على أن تستبعد بعض العاملين فيها بحجة انتمائهم السياسي.

سياسة تصفية التليفزيون بدأت مع وصول السيسي إلى الحكم، ولا سيما بعد الأزمات المتوالية التي شهدها “ماسبيرو” بدءًا من انتقاد السيسي، وتراكم المديونيات على القطاع والتي وصلت لنحو 23 مليار جنيه.

لغط بالبرلمان

في فبراير الماضي حضر ماسبيرو بقوة على مائدة البرلمان المصري، حيث تقدم النائب مصطفى بكري المعروف بقربه من دوائر معينة في نظام السيسي بطلب إحاطة لرئيس الوزراء شريف إسماعيل، حول خطة يتم تنفيذها لتصفية اتحاد الإذاعة والتليفزيون على خطوات حتى يصل الأمر إلى التخلي النهائي عن الاتحاد وبيعه..

بكري قال: إن العاملين فى ماسبيرو أصبحوا على يقين أن الدولة تخلت عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون ، ولا يوجد أى خطط لتطويره، لافتا إلى أن هناك ترصد من القنوات الخاصة بماسبيرو، وأن هناك محاولات لخصخصته.

ما فعله بكري فسره البعض على أنه عملية تهييج مقصودة، لقرب بكري الشديد من بعض الأجهزة السيادية، والتي تريد أن يتم طرح الموضوع على نطاقات أوسع تمهيدا لفتح الملف بقوة خلال الفترة المقبلة..

ما يفسر ذلك هو المساجلة التي حدثت أثناء كلمة بكري بينه وبين النائبة الدكتورة غادة صقر عضو مجلس النواب، وأستاذ الإعلام السياسى بجامعة دمياط، والتي أكدت أن طرح بكرى لفكرة خصخصة اتحاد الإذاعة والتليفزيون “ماسبيرو” لا داعى للحديث فيها لأنه أمر غير مطروح، لافتة إلى أن ذلك فيه تخويف للعاملين فى وقت ليس له أى دلالة، متسائلة: ” مين اللى اتكلم عن خصخصة ولا مين اللي قال هشتري ولا مين يملك يبيع أصلًا، إنت فعلا بتتكلم على قضية لم تطرح للنقاش ده مش التوحيد والنور ولا عمر أفندى ولا مستشفى تكاملى عشان نبيعه…..”

ترصد من القنوات الخاصة

ربما كان نبض الإعلام الخاص الذي يصفه البعض بـ “هتيفة السيسي” هو الترمومتر الذي تقاس به درجة حرارة أي موضوع بالنسبة للسلطة…

وقد تعمدت قنوات خاصة معروفة بقربها من دوائر سيادية مهاجمة ماسبيرو وإظهار بعض عوراته بما يشي برغبة في تمهيد الطريق أمام حل نهائي وجذري لأزمته المترهلة..

وهناك حدث ذو دلالة واضحة على ذلك وهو حوار السيسي مع قناة «بي بي أس»، الأمريكية، والذي أذاعه التلفزيون المصري على أنه حوار هذا العام وهو حوار العام الماضي؟!

قناة صدى البلد ومذيعها “أحمد موسى” تناولا هذا الحدث على اعتبار أنه خطأ مهني جسيم، واستضاف خبراء وإعلاميين ليؤكدوا أنه مؤامرة يتزعمها الإخوان القابعون في أقبية ماسبيرو ليعطلوا أي نهضة يقوم بها “الرئيس”..

طريقة معالجة صدى البلد تظهر كما من “الأفورة” غير المبررة لحدث مع خطأه المهني ربما يكون طبيعيا، قياسا بأخطاء أخرى تصدر عن ذات القنوات التي يتحدثون منها، ومنها ما قام به “أحمد موسى ذاته” حينما عرض لعبة «بلاي ستيشن»، على أنها القصف الروسي على مواقع «داعش»، وظل يعرض اللقطات ويمجد في القوة الروسية الجبارة.. إلى أن فضحه شباب مواقع التواصل الاجتماعي..

الأرقام تؤكد الانهيار

ربما يجدر الإشارة هنا إلى الوضع المالي للهيئة التي يمثلها مبنى ماسبيرو، كي يتم تصور كم الترهل الإداري والخسارة التي يسببها هذا القطاع للدولة، والتي تسببت فيه سياسات العهود السابقة….

فإجمالي الخسائر العامة للهيئة المُقدرة في العام المالي 2016/2017 إلى 4.14 مليارات جنيه مقابل 3.6 مليارات العام السابق… وجملة الأجور المُقدرة 2.1 مليار جنيه من إجمالي مصروفات 5.9 مليارات جنيه، وقد بلغت موازنة الهيئة نحو 11.55 مليار جنيه.، وقد بلغت نسبة ديون المبنى مثلًا لبنك الاستثمار القومي مبلغ 23 مليار جنيه..

وكان إجمالي خسائر الاتحاد حتى يونيو 2015، بلغ ما يزيد على 32 مليار جنيه، بعدما كان قد بلغ في العام المالي 2014 /2015، نحو 4 مليارات ونصف المليار جنيه… ومعلوم أن ماسبيرو به 44 ألف عامل منهم 12 ألف خارج المبنى و32 ألف عاملين حاليين بالفعل.. وعدد مُقدمي ومذيعي البرامج يقدر بـ2643، يخدمون 23 قناة تليفزيونية.