“مسخرة القرن الـ21”.. هكذا وصف أستاذ العلوم السياسية “محمد المختار الشنقيطي” الأحكام الابتدائية التي أعلنتها النيابة العامة السعودية بحق المتهمين بجريمة اغتيال الكاتب الصحفي “جمال خاشقجي” داخل قنصلية المملكة بمدينة إسطنبول، معبرا عن طيف واسع من المراقبين الذين استنتجوا مؤشرات على سيناريو نظام ولي العهد “محمد بن سلمان” لإغلاق القضية التي مثلت أكبر فضيحة للمملكة منذ عقود.

ويعود هذا الوصف إلى مفارقات عدة، بينها أن تحقيقات القضية شملت 31 شخصا، بحسب بيان للنيابة السعودية، أوقف 21 شخصا منهم، فيما تم استجواب 10 أشخاص منهم دون توقيف وفق تقدير مفاده “عدم وجود ما يستوجب ذلك”، وهو ما يعني تبرئه هؤلاء العشرة قبل بدء التحقيق أصلا.

واحتوى البيان على مفارقة ثانية تتعلق بالحيثيات والأسماء في إعلان حفظ الدعوى بحق 10 من الموقوفين ورد طلب النيابة بعقاب 3 تعزيرا، ما يعني تبرئتهم، وإدانة 5 بالقتل قصاصا و3 بالسجن.

فمن حيث الأسماء، لم يذكر بيان النيابة أسماء من تمت إدانتهم أو حتى تبرئتهم، باستثناء 3، هم: “سعود القحطاني”، المستشار السابق بالديوان الملكي المقرب من  ولي العهد “محمد بن سلمان”، ونائب رئيس الاستخبارات السابق “أحمد عسيري”، إضافة إلى “محمد العتيبي”، قنصل المملكة بإسطنبول وقت وقوع جريمة اغتيال “خاشقجي”.

أما الحيثيات، فلم يذكر البيان شيئا عن مصير جثة “خاشقجي” أو اسم “المتعهد المحلي” الذي تسلمها في إسطنبول، حسبما نقلت “رويترز” عن مسؤولين سعوديين، كما لم يذكر أي حيثيات تخص المحكوم عليهم بالقتل قصاصا، أو يحدد المدد المحكوم بها فيما يخص المعاقبين بالسجن، واكتفى بتبرير حفظ الدعوى والبراءة للباقين بـ”عدم ثبوت التهمة”، أو “عدم كفاية الأدلة” دون أي تفاصيل.

بينما أورد ذكر حيثيتين فقط بالبيان، أحدهما تتعلق بتبرئه القنصل، وهي ثبوت “عدم وجوده بقنصلية السعودية وقت وقوع الجريمة”، والثانية هي التأكيد على إثبات التحقيقات أن “جريمة قتل خاشقجي لم تتم بنية مسبقة”.

وإذا كانت النيابة السعودية تبرر تغييب الأسماء بالمادة 68 من نظام الإجراءات الجزائية، الذي يحظر إعلان الأسماء في الأحكام الابتدائية، على أن يتم إعلانها فقط في حال تأييدها من محكمة الاستئناف، فإن ذلك يعني أن المرحلة الأخيرة من إسدال الستار القضائي على ملف القضية سيشهد إعلان أسماء المدانين الثمانية، أو بعضهم، إذا ما رأت محكمة الاستئناف إضافة بعضهم إلى قائمة المبرأين الواسعة، بما يعني ترجيح تقديم أعداد قليلة من “أكباش الفداء” نظير التستر على كل دائرة أمر وتخطيط الجريمة وأغلب دائرة تنفيذها.

وأيا ما كانت الأسماء، فإن إعلانها بالحكم الابتدائي ينطوي على “مخاطرة” بشأن ردود فعل “غير محسوبة” تصدر عن المدانين أو عن عوائلهم، خاصة أولئك الذين يملكون ثقلا “نظاميا” أو “قبليا”.

وينتمي “القحطاني” و”عسيري” إلى أصحاب الثقل النظامي، إذ هما العقلان المدبران لتفاصيل تنفيذ أمر “بن سلمان” بالقتل، حسبما تفيد تسريبات الصحف الغربية عن تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشأن الجريمة، بينما ينتمي “العتيبي” إلى الفئة الثانية، إذ ينتمي إلى قبيلة العتيبة، التي تشهد علاقتها بالدولة السعودية توترات واضحة خلال الآونة الأخيرة، على خلفية اعتقال شيخها “عبدالرحمن بن سلطان بن جهجاه بن حميد” بعد توجيهه انتقادات لهيئة الترفيه التي يرأسها “تركي آل الشيخ”، أحد رجال “بن سلمان” المقربين.

من هنا جاءت حيثيات تبرئة “القحطاني” و”عسيري” لتعطي طمأنة مطلقة لرجال “بن سلمان” مفادها أنهم في مأمن من أي عقاب أو مساءلة، فيما جاءت حيثية تبرئة “محمد العتيبي” بصيغة تؤشر إلى “مساومة” مع قبيلته.

فإما أن تقبل القبيلة بتمرير سيناريو تبرئة القنصل، الذي تدحضه تسريبات لتسجيلات أوردتها الصحف التركية لوقت وقوع الجريمة (إذ أكدت وجود “العتيبي” بالقنصلية)، ما يعني اصطفاف القبيلة مع ملاذها الوحيد (الدولة) مقابل تبرئة أحد أبنائها، أو استمرار حالة التوتر ودعوات التصعيد من قبل بعض الأصوات داخل القبيلة بعد اعتقال شيخها، ما يعني إمكانية تحول البراءة إلى إدانة بسهولة في استئناف “العدالة السعودية” ليتحول “محمد العتيبي” إلى أحد أكباش الفداء المحتملين.

رسالة الدولة السعودية إلى قبيلة “العتيبة” هنا ذات وجهين، ترغيب وترهيب في آن، وقد بدا أن هكذا أسلوب يؤتي أكله مع حالات مشابهة، لاسيما حالة أسرة “خاشقجي” نفسه.

فـ”صلاح خاشقجي”، نجل الصحفي المغدور، غرّد على “تويتر” معلّقًا على الحكم الابتدائي، بالثناء على “إنصاف” القضاء السعودي وتأكيد ثقته فيه، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة بين المطالبين بكشف الحقيقة كاملة من زملاء وأصدقاء الكاتب السابق بصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.

وصدر هذا التعليق رغم عدم إجابة السلطات السعودية عن سؤال “صلاح” نفسه بشأن مصير “جثة أبيه”، ما دفع العديد من المراقبين إلى التشكك في تعرضه وإخوته لذات المساومة والضغوط السعودية.

وفي هذا الإطار، أشار الباحث في الشؤون الإقليمية “علي مراد”، في حديث لقناة “العالم”، إلى أن “السؤوال (حول جثة “خاشقجي”) أكدت عليه تركيا منذ الأيام الاولی للجريمة، ولكن السعودية أصرت علی تجاهله”، وتفيد المؤشرات بأنها ستستمر في ذلك.

وبيّن “مراد” أن الصحافة التركي طرحت عدة احتمالات؛ منها إذابة الجثة بالأسيد، ومنها حرق الجثة حتی أصبحت رمادا، في حين عجز الخيال السعودي عن تقديم سيناريو محكم للإجابة حتى الآن.

وجاء الموقف الأمريكي من مؤشرات السيناريو السعودي لإغلاق القضية ليعطي مؤشرا على أن خطى الرياض ربما تلقى دعما من واشنطن، أو على الأقل إدارة الرئيس “دونالد ترامب”، إذ نقلت “رويترز” عن مسؤول كبير بالإدارة (لم تسمه)، أن الولايات المتحدة تعتبر أن الحكم الابتدائي السعودي “خطوة مهمة” لمحاسبة المسؤولين عن جريمة اغتيال “خاشقجي”.

ومعلوم أن الرياض تعول على موقف واشنطن بالأساس في إغلاق الملف، إذ تبقى مواقف تركيا والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية غير قابلة للتفاوض وإجراء الصفقات، وهو ما عبر عنه رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية “فخر الدين ألطون”، بوصفه أحكام القضاء السعودي الابتدائية بأنها “استهزاء بذكاء العالم”، ووصف المقررة الخاصة للأمم المتحدة، المعنية بحالات الإعدام خارج القضاء “أجنيس كالامارد” لها بأنها “مثيرة للسخرية”.

وسلط أحد تعليقات المراقبين الحقوقيين على الحكم الضوء على سيناريو السعودية لإغلاق القضية نهائيا في الاستئناف، إذ أشار المدير التنفيذي لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” “كينيث روث”، إلى استهدف أحكام القتل قصاصا لـ”مزيد من التعتيم على تفاصيل الجريمة عبر إعدام هؤلاء الذين يعرفون الكثير عنها”.

ونشر “روث” استنتاجه عبر “تويتر” من زاوية حقوقية، غير أن مؤشرات التحليل السياسي تفيد أن العكس تماما هو ما يتم الترتيب له على الأرجح.

فالأكثر دراية بتفاصيل الجريمة لن يمسهم الحكم النهائي لأسباب “سياسية” أو “قبلية”، بما يعني أن السيناريو الراجح لأكباش الفداء المحتملين هو كونهم من دائرة “الذين يعلمون القليل عن تفاصيل الجريمة ولا يمثل عقابهم مخاطرة للنظام”.

وحتى في حال خروج أحد الكباش أو عوائلهم عن رد الفعل المتوقع، فإن بابا آخر يظل مفتوحا وجاهزا لتدارك الموقف من قبل النظام السعودي، وهو ما أشار إليه الباحث “عبدالله العودة” عبر “تويتر”، مغردا: “حتى طلب القتل جاء بصيغة القصاص ليتيح لأولياء الدم (الذين تبتزهم نفس فرقة القتل الصغيرة) العفو!”.

تعول السعودية إذن على سماحية أمريكية لتمرير سناريو إغلاق سياسي للقضية بأقل كلفة ممكنة من أكباش الفداء، في مقابل اتجاهها الواضح للتصعيد الإقليمي مع تركيا، التي أعلنت مرارا أنها ستمضي للنهاية في كشف الحقيقة.

ربما تفيد حسابات السياسية بإمكانية تمرير هذا السيناريو، لكن العديد من المراقبين يرونه أكبر تآكل رسمي لشرعية النظام السعودي وعدالته منذ عقود، وهو ما عبر عنه المعارض المقيم في لندن “سعيد بن ناصر الغامدي” بقوله إن “بن سلمان” حصل بأحكام قضية “خاشقجي” الابتدائية على “ميدالية (الحاكم العادل) من هيئة العدل الكونية في كوريا الشمالية”.