بعد 3 أيام من الإنكار، عكست هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية موقفها بشكل مذهل، حين أقرت بأن أحد أنظمة الصواريخ أرض جو قد أسقطت طائرة الخطوط الجوية الأوكرانية، الرحلة 752، بسبب خطأ بشري.
كان هناك سبب جعل إيران تتراجع هكذا؛ ليس لدى البلاد رغبة في تحويل نفسها إلى منبوذ دولي، وإنما تفضل إيجاد طريقة للانخراط مع بقية العالم، والحد من تأثير العقوبات الأمريكية و التفاوض مع الغرب.
يظهر الاعتراف الصريح أن مثل هذه الأهداف الإستراتيجية تؤثر على العديد من خيارات إيران، بما في ذلك تغير موقفها بالكامل فيما يخص كارثة الطيران.
حدود الإنكار
ليس من الشائع بالنسبة للدول أن تعترف بسرعة بمسؤوليتها بعد إسقاطها لطائرة مدنية بالخطأ، حيث كان آخر حادث مشابه هو حالة الرحلة رقم 17 لشركة الخطوط الجوية الماليزية في عام 2014.
خلص فريق تحقيق بقيادة هولندا إلى أن المتمردين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا استخدموا صاروخًا أرض جو روسيًا لإسقاط الطائرة خلال رحلتها من أمستردام إلى كوالالمبور؛ وبعد أكثر من نصف عقد، تواصل روسيا إنكار أي تورط.
يمكن أن تختلف أسباب الاعتراف بالمسؤولية، لكن بالنسبة لطهران، فإن المخاوف الداخلية بشأن المشاحنات القانونية المحتملة، غيرت الموقف.
في أعقاب الرحلة 752 مباشرة، حاولت إيران إخفاء فعلتها وأصدرت إنكارات، على أمل أن تتمكن من الاحتفاظ بعلاقاتها الدولية.
أولاً، أعلنت طهران أن الطائرة تحطمت بسبب عطل فني وأن التوترات الشديدة مع الولايات المتحدة ستمنعها من تسليم الصندوق الأسود إلى “بوينج” التي صنعت الطائرة 737-800، ولدعم ادعاءاتها، دفعت السلطات الإيرانية وسائل الإعلام الحكومية وشبه الحكومية إلى التحرك لدعم سردية الحكومة.
حتى في 10 يناير/كانون الثاني – قبل ساعات من الاعتراف النهائي بمسؤولية إيران – ظل رئيس منظمة الطيران المدني الإيراني، “علي عبد زاده”، على تأكيده بأنه لا يوجد دليل على أن الطائرة قد أسقطت، مردداً حديثه منذ وقت مبكر من الأسبوع، عندما قال: “من الناحية العلمية، من المستحيل أن يضرب صاروخ الطائرة الأوكرانية، ومثل هذه الشائعات غير منطقية”.
كان رد الفعل الدولي على تصريحات إيران متسمًا بالشكوك، فمع مرور الأيام، انتقدت واشنطن وأوتاوا وغيرها طهران علانية، مشيرين إلى أن لديهم معلومات استخبارية تشير إلى أن سبب إسقاط الطائرة ليس مشكلة فنية.
في الحوادث السابقة التي اختلفت فيها الرواية الإيرانية والعالمية، تمكنت إيران من استخدام إنكار قابل للتصديق لمصلحتها؛ والجدير بالذكر أنها لا تزال تنفي أي مسؤولية عن هجمات العام الماضي على ناقلات النفط قبالة سواحل الإمارات العربية المتحدة وهجماتها على اثنتين من منشآت النفط السعودية.
ومع ذلك، فقد كان إسقاط الرحلة 752 مختلفًا تمامًا، لأنه حدث على الأراضي الإيرانية.
واقع قاس يفرض الاعتذار
لم يترك هذا خيارًا لإيران سوى الاعتراف بأنها أسقطت الطائرة بطريق الخطأ، عدم القيام بذلك كان سيترتب عليه العديد من التداعيات.
أولاً، استمرار النفي كان من شأنه أن يضعف ثقة المجتمع الدولي الهشة بالفعل في التصريحات والوعود الإيرانية، وكان من الممكن أن تتعرض كندا وأوكرانيا والمملكة المتحدة وعدد من الدول الأوروبية الأخرى لضغوط متزايدة من قبل شعوبها لإجبار إيران على الاعتراف بالمسؤولية وتقديم تعويض مالي لعائلات الضحايا.
ثانياً، كان يمكن للتوترات الدبلوماسية بين إيران والغرب أن تتعمق أكثر فأكثر، من المؤكد أن كندا – التي فقدت 57 مواطناً في الحادث (كان 81 راكباً آخر على متن الطائرة المنكوبة متجهين إلى البلاد)- كانت ستدفع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية إلى ربط المفاوضات المستقبلية مع إيران بتعويض عائلات الضحايا الكنديين.
لا خيارات أخرى
وفي حين أن الرحلة 752 لم تكن لتصبح بنفس أهمية البرنامج النووي الإيراني أو برنامج الصواريخ الباليستية بالنسبة لأوروبا، فمن المؤكد أنها كانت ستلقي بظلالها على المحادثات وتحد من قدرة إيران على الدفع للحصول على الدعم المالي من خلال آليات مثل الرابط المالي بين الاتحاد الأوروبي وإيران؛ “اينستكس”.
تبعا لذلك، من المرجح أن تقدم إيران بعض التعويضات لضحايا الحادث، في الواقع، قد تحاول طهران حتى استخدام هذه القضية لفتح بعض الحسابات المصرفية والروابط المالية التي لا تزال مغلقة بسبب العقوبات.
على سبيل المثال، يمكن أن تقدم تعويضًا بالأموال المجمدة حاليًا نتيجة لتدابير الولايات المتحدة أو تطلب تعديلات على “اينستكس” حتى تتمكن من الدفع من خلال هذه القناة.
ومع ذلك، من المرجح أن تظل المسألة مثيرة للجدل ومعقدة بالنظر إلى عدد المسافرين الذين يحملون جوازات سفر إيرانية وجوازات سفر أخرى.
لا تعترف إيران بالجنسية المزدوجة، ما يعني أنه يمكن للحكومات الأجنبية المطالبة بتعويضات للمسافرين الذين تعترف بهم كمواطنين لها، لكن طهران لا تعترف بهم.
يعكس الضغط الدولي المكثف مرة أخرى حقيقة بسيطة لإيران: إنها دولة تتمتع بصلات عميقة بالعالم، قد يرغب قادة إيران في السيطرة على تدفق المعلومات والمواطنين، لكنهم نادراً ما يستطيعون تجاهل حقيقة أن العديد من الإيرانيين معتادون على السفر إلى الخارج، وأن اقتصاد البلاد يعتمد اعتمادًا عميقًا على التجارة الخارجية وصادرات الطاقة.
وبسبب الضرورة الاستراتيجية لدى إيران لتحسين اقتصادها، وتخفيف آثار العقوبات والتفاوض مع الولايات المتحدة في نهاية المطاف، لم يكن أمام الجمهورية الإسلامية خيار سوى المكاشفة والاعتراف بالتورط في حادثة أسفرت عن مقتل العديد من الأجانب والإيرانيين.
اضف تعليقا