حكومة إقليم تسعى للانفصال، وراءها شعب أغلبه متحمس للأمر، على ما يبدو، لكن القوة على الأرض للشرطة التابعة للحكومة المركزية، التي ترفض هذا الانفصال بشدة، هكذا يبدو الوضع على الأرض في إقليم كتالونيا (قطالونيا بالنطق العربي الصحيح) الإسباني (حتى الآن)، ماثلا أمام كل من يريد تشبيه الأمر باستفتاء أكراد كردستان العراق، والذي تم إنجازه، منذ أيام، رغما عن العراق والقوى الإقليمية المحيطة.
أولى أسباب الاختلاف، هو أن أكراد العراق عندما دخلوا الاستفتاء كان لديهم قوات عسكرية متطورة تسليحيا وتنظيميا تسيطر على أراضي الإقليم، وهي مؤيدة للانفصال عن العراق بحماس، أما الثاني فكان وجود دعم إسرائيلي أمريكي ألماني واضح للأمر، لكن الكتالونيين لا يملكون غير إرادة ومؤيدين “عزل” أمام شرطة وجيش تابعين لـ “إسبانيا مدريد”.
سياسي أم عرقي؟
وفقا لهذه الاختلافات يبدو انفصال كردستان العراق سياسيا أكثر منه عرقيا، بينما انفصال كتالونيا إسبانيا عرقي أكثر منه سياسي، لكن وطأة الثاني – إن تم – ستكون أشد على الحكومة الإسبانية في مدريد، أكثر من وطأة استفتاء كردستان على الحكومة العراقية في بغداد.
في كردستان، لم يكن الاستفتاء شأنا عراقيا، بقدر ما كان شأنا إقليميا، فتركيا وإيران تتمسكان برفضه، وتهددان بإجراءات، وبقدر ما شكل هذا الأمر حالة احتراب إقليمية متوقعة يخشى معها تفجر الأوضاع بشكل كبير في منطقة ملتهبة بالفعل، إلا أن الأمر يحمل في طياته تنفيسا للضغوط عن حكومة العراق، من باب أنها ليست فقط من ترفض استفتاء كردستان.
في كتالونيا، تبدو الأمور مختلفة، فالشأن – إلى حد الآن – يبدو إسبانيا خالصا، لا داعمين أو رافضين إقليميين، الاتحاد الأوروبي لا يبدو أنه يريد التحرك للآن، والقوى الدولية الكبرى تراقب بصمت.
ماذا حدث؟
حتى لحظة كتابة هذه السطور، صباح الأحد 1 أكتوبر، كان الناخبون يحتلون معظم المدارس في كتالونيا، والتي من المتوقع أن تتحول إلى مراكز اقتراع للاستفتاء، حيث باتوا فيها من مساء السبت، في تحد للشرطة التي تلقت أوامر واضحة من الحكومة المركزية بمنع الاستفتاء، بدورها سمحت الشرطة للمواطنين بالمبيت، شريطة أن ينصرف الجميع في السادسة صباحا.
شهود عيان من هناك أفادوا لـ “العدسة” بأن قوات الشرطة بدأت في المرور على المدارس منذ الصباح لحث الناس على الخروج، لكن الجماهير ترفض وتقابل الأمر بالتصفيق والتصفير، فتنصرف الشرطة.
الموقف بعد ساعة من هذا التطور اتجه نحو التصعيد، حيث صادرت الشرطة عددا من صناديق وبطاقات الاقتراع في أكثر من مكان، وسط احتجاجات المواطنين، الذين أصروا على الاصطفاف للإدلاء بأصواتهم.
بعد ذلك، تداولت وكالات أنباء صورا تظهر المتظاهرين نائمين أمام لجان الاستفتاء لحين فتحها والتصويت، وأعلن ممثل الحكومة الإسبانية، فى كتالونيا، إنريك ميو، أمس السبت، أن الشرطة ختمت بالشمع الأحمر أكثر من نصف مراكز الاقتراع البالغ عددها 2300، وأنها ماضية في اقتحام بقية المراكز، لكن المواطنين يقولون إنهم سيذهبون إلى أي مركز للإدلاء بأصواتهم، حتى ولو كان مركزا واحدا.
الفرق إذن كبير بين كردستان وكتالونيا، الاستفتاء الأول جرى استغلالا لوضع أمني مهترئ لا تسيطر فيه الحكومة المركزية بأي شكل على الإقليم الذي يؤيد الانفصال، فتم الاستفتاء بحماية قوات الإقليم، لكن الثاني يتم في وضع اعتيادي تسيطر فيه الدولة المركزية على جميع الأقاليم أمنيا وعسكريا، وهو عنصر في هذه الحالات أهم من السيطرة السياسية ورأي الناس.
لماذا تريد كتالونيا الانفصال؟
بالفعل كان إقليم كتالونيا يتمتع بالحكم الذاتي عام 1931، لكن انقلاب الجنرال فرانثيسكو فرانكو ألغى هذا الأمر، وضم كتالونيا للحكومة المركزية بمدريد، بدعم من هتلر وموسوليني آنذاك، وقمع فرانكو الكتالونيين بوحشية، وتم التعامل مع نادي برشلونة بتحيز، وتفضيل ريال مدريد عليه.
ويعتبر المواطنين الكتالان أنفسهم غير إسبان، والكثير منهم يرفضون الحديث باللغة الإسبانية، ولا يتحدثون إلا الكتالانية فقط، وعندما تتجول في شوارع برشلونة او تراجونا أو بادالونا كثيرًا ما ترى أمامك عبارة مكتوبة على علم معلق على أسوار المنازل والبنايات الكتالانية وهي “كتالونيا ليست إسبانيّة”.
ومن المعروف أن كتالونيا هي المنطقة الاقتصادية الرائدة في إسبانيا، مع ما يقرب من ٢٠٪ من الناتج القومي الإجمالي لهذه المنطقة، التي تشكل ٦٪ فقط من مساحة اليابسة في إسبانيا و١٥٪ من عدد السكان.
يرى الكتالونيون أنهم يقومون بتحويل مبالغ مالية إلى الحكومة المركزية الإسبانية تفوق الـ ٢٠ مليار يورو سنويًا تستقطع من دافعي الضرائب في كتالونيا، ولا تجد مردود يذكر أو تحسن ملحوظ علي معيشتهم وحياتهم، لذلك هم يشعرون بالإحباط بسبب تردي كل الخدمات التعليمية والصحية في كتالونيا.
انفراط إسبانيا
تعلم الحكومة الإسبانية أن نجاح استفتاء كتالونيا وانفصالها، سيجر عليهم عدة استفتاءات أخرى، في أقاليم مختلفة، منها علي سبيل المثال إقليم الباسك الحدودي الذي يطالب بالاستقلال عن إسبانيا مع احتفاظه بجزء من الأراضي الفرنسية، بعد خوضه صراعا دمويا ضد الحكومة المركزية الإسبانية عن طريق ما يسمى بحركة إيتا الباسكية الانفصالية، اغتالت بسببه الحركة عددا من الوزراء الإسبان، وقامت بعدة تفجيرات ضد عناصر من الشرطة، ولم تعلن نبذها للعنف وترك السلاح، إلا هذه السنة، في أبريل ٢٠١٧، بالإضافة إلى جزر الكناري، التي تطالب هي الأخرى بالانفصال عن إسبانيا.
قد يلهم الصراع في إسبانيا العديد من الأقاليم المختلفة في عدة دول لتحذوا حذوهم، مثلما كان الحال حين أجرت أسكتلندا استفتاء الاستقلال عن المملكة المتحدة، وظهور وقتها من طالبوا بانفصال باڤاريا عن ألمانيا، لهذا يتوقع أن تقاوم أوروبا بعنف استقلال كتالونيا.
اضف تعليقا