دور مصري متنام في القضية الفلسطينية، على صعيد التفاهمات الأمنية مع حركة حماس من جهة، والمصالحة الوطنية بينها وبين حركة فتح من جهة أخرى، يقابله دور إماراتي لا يقل تصاعدًا.
إلا أن الدور الإماراتي تحيط به العديد من علامات الاستفهام، حينما تتكشف أبعاده يومًا تلو الآخر، وتواجه أبو ظبي اتهامات بالتطبيع وزيادة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي من جانب، وتعمد الإضرار بحركات المقاومة، وخاصة حماس، من جانب ثان.
فهل يمكن، إذا سلمنا بتضارب أجندتي البلدين، أن يصطدم الشقيقان الحليفان على أرض فلسطين، وإلى أي مدى تلعب الإمارات دورًا مشبوهًا ضد القضية؟.
القدس “إماراتية”!
أحدث إرهاصات ما تواجهه الإمارات من اتهامات، تلك الصورة التي نشرها المركز الفلسطيني للإعلام (التابع لحركة حماس)، واتهم فيها أبو ظبي بتحريف أسماء سور القرآن الكريم.
الصورة كانت عبارة عن صفحة من القرآن من بداية سورة الإسراء لكن يتضح في أعلاها أن السورة اسمها “بني إسرائيل”، وجاء تعليق المركز على الصورة: “الإمارات تطبع مصحفًا تسمي فيه سورة الإسراء بني إسرائيل وتوزعه مجانًا في عدة دول عربية”.
وعلى الرغم من عدم وجود دليل مادي على ما ادعاه المركز الإعلامي، فإن الصورة العالقة في أذهان كثيرين والرابطة بين الإمارات والقدس، لا يمكن أن تنسى ما كشفه الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل (عرب 48).
“صلاح” قال في لقاء تليفزيوني في أبريل 2015، إن لديه وثائق وأدلة دامغة على أن الإماراتيين، متورطين في شراء منازل في القدس المحتلة بمبالغ ضخمة لصالح مؤسسات يهودية.
“العتيبة” كلمة السر
وبين علاقات اقتصادية متينة في العلن والخفاء، وأخرى سياسية ودبلوماسية سرية فضحتها تسريبات “ويكيليكس”، سلط التقرير الإعلامي المنشور 31 يوليو الماضي بعنوان “رمال متصهينة” الضوء على القصة الكاملة للعلاقات الإسرائيلية الإماراتية.
ويبدو أن الرسائل المسربة من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، كشفت عن فصول جديدة لتلك العلاقات، حيث نقلت تقارير إعلامية عن وثائق لموقع ويكيليكس، أن تنسيقًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا وعسكريًا يجري بشكل متسارع بين الإمارات وإسرائيل.
الوثائق، تظهر الدور الذي يقوم به العتيبة في الدفع بالتطبيع بين بلاده وإسرائيل في اتجاه مراحل غير مسبوقة، كما تظهر أن أبوظبي لم تتحول إلى مرتع للمصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية فحسب، بل أصبحت قاطرة تحاول جذب العالم العربي إلى السير في ركاب المنظور الإسرائيلي للمنطقة وقضاياها، وفي صدارتها القضية الفلسطينية.
وفي أغسطس الماضي، كشف موقع “ميديل إيست آي” البريطاني، أن العتيبة تواصل مع “عراب” القبة الحديدية الإسرائيلية، والقائد في جيش الاحتلال، عوزي روبين، بعد شهر واحد من العدوان على غزة عام 2012، ومع أهم مؤسسات اللوبي الإسرائيلي في أمريكا.
كما تكشف الوثائق أنه في عام 2010 استقبلت الإمارات فريق الجودو الإسرائيلي بالتزامن مع اغتيال القيادي في حركة حماس “محمود المبحوح” في دبي بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد).
وبحسب الوثائق أيضًا، فإن الإمارات تعاقدت مع شركة “إيه جي تي” الأمنية الإسرائيلية لتأمين مرافق النفط والغاز، وكذلك إقامة شبكة مراقبة مدنية في أبوظبي، كما شاركت الإمارات نهاية العام الماضي في مناورات العلم الأحمر في اليونان إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة.
وفي مراسلات أخرى طلب المحلل البارز في واشنطن، وأحد أهم مفكري اللوبي الإسرائيلي هناك، “روبرت ساتلوف” من العتيبة في فبراير 2012، استضافة عشاء خاص لمجلس إدارة معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والمناصر للاحتلال، ورد العتيبة بالإيجاب، وقال: “هذه فكرة عظيمة، سعيد باستضافة هذه المجموعة القوية”.
إخضاع المقاومة
ولازلنا مع تسريبات العتيبة التي تكشف أبعادًا كثيرة على علاقة بالجناح الآخر من سياسة الإمارات تجاه القضية الفلسطينية، والذي يتمحور حول معاداة حركات المقاومة، وفي القلب منها حركة حماس.
التسريبات كشفت عن لقاء عقد بين وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان ووزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، قبل الحرب الأخيرة على غزة عام 2014، أوصاه فيها الأخير بسحق حركة حماس.
المعاداة اتخذت أشكالًا عدة، من بينها المسؤولية عن اغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح بأحد فنادق دبي عام 2010.
تقارير إعلامية، نقلت عن مركز الإمارات للدراسات والإعلام “إيماسك”، قوله إن رئيس شرطة دبي السابق الفريق ضاحي خلفان متورط في اغتيال المبحوح.
التقارير أضافت أن “المخابرات الإماراتية علمت بنشاط المبحوح وسبق لها أن أوقفته، واستلم خلفان ملف المبحوح وبدأ بالتواصل مع رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق في غزة والقيادي الفتحاوي المفصول (محمد دحلان) لكي يمده بمعلومات عن المبحوح”.
وهنا تقود التفاصيل إلى الحلقة الأخطر في علاقة الإمارات بالمقاومة الفلسطينية، والدور الذي يلعبه “دحلان” منذ تعيينه مستشارًا أمنيًا لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، في محاولة لي ذراع المقاومة وإخضاعها تحت الوصاية الإماراتية.
هذا المسلك كان واضحًا بشدة في خضم الأزمة الخليجية الحالية، فبينما كان دحلان طرفًا في لقاءات التفاهمات الأمنية بين مصر وحماس في القاهرة، كانت كل من السعودية والإمارات تكيل الاتهامات ضد حماس.
ففي 6 يونيو الماضي، قال وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، على هامش زيارته لباريس، إن “الكيل قد طفح، وعلى الحكومة القطرية التوقف عن دعمها للجماعات الإرهابية مثل حماس وجماعة الإخوان”.
وبعدها بيومين هاجم وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات “أنور قرقاش”، حركة حماس، وقال في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية، إن “وجودها (حماس) في قطر يشكل خطرًا على المنطقة”.
ويبدو أن المقصد الإماراتي من هذه المفارقة إيصال رسالة إلى حماس مفادها أن أبو ظبي تمسك بزمام الأمور، وأنه لا يمكن أن تخرج عن وصايتها حتى ولو كانت في القاهرة، وذلك عن طريق رجلها المثير للجدل “دحلان”.
هل يصطدم الحليفان؟
هذه الوصاية التي تسعى الإمارات لفرضها على المقاومة الفلسطينية من جانب، وتوسيع رقعة التطبيع مع الاحتلال من جانب آخر، يضمنان اتساع نفوذها في المنطقة على حساب مصر، الغارقة في أزماتها الداخلية.
ولعل القضية الفلسطينية أصبحت منذ عقود، باعتبارها قضية العرب والمسلمين المركزية والأولى، مجرد أداة للصراع على النفوذ والسيطرة الإقليمية بين دول المنطقة، التي سعت لملء الفراغ المصري.
لكن القاهرة لم تقف مكتوفة الأيدي، بل شمرت ساعديها وانطلقت في تسيير قطار المصالح الفلسطينية وقربت منها حركة حماس رغم أزمتها مع جماعة الإخوان المسلمين، ويبدو أنها هي من طلب من الحركة حل لجنتها الإدارية وتقديم ما وُصف بالتنازلات، لتثبت مصر أنها اللاعب الأول والرئيس في القضية.
من هنا، وبسبب إدارك الطرفين أن كل منهما هو المسيطر على الأزمة، تزداد احتمالات نشوب صراع بينهما على أولوية الزعامة، التي تراها القاهرة حق أصيل لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والسياسة وغيرها، بينما تغتر أبو ظبي بترسانتها المالية وتجند ملياراتها للعب أدوار أكبر من حجمها.
لكن في المقابل، فإن العوامل التي تدفع في الاتجاه المضاد الذي يعني توافق الطرفين على لعب أدوار محددة تبقي فرص وقوع هذا السيناريو هي الأرجح.
فالإمارات هي الداعم الأول لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي حتى قبل توليه منصب الرئاسة، وتحديدًا منذ دعم الحركة الاحتجاجية المناوئة للرئيس الأسبق محمد مرسي، ويتمتع النظامان بعلاقات وُصفت بالاستثنائية.
هذه العلاقات، مع الوضع في الاعتبار كون مصر والإمارات جناحان في رباعي حصار قطر، تقلل للغاية فرص حصول تصادم بين البلدين على خلفية القضية الفلسطينية، وترجح إيجاد صيغة تفاهمية بينهما على إدارة الملف برمته.
اضف تعليقا