رغم أن فرنسا أعلنت مرارا أنها ضد التدخل العسكري في ليبيا، ودعت مرارا إلى وقف إطلاق النار في طرابلس، إلا أن عدة شواهد بل واعترافات تؤكد تورط باريس في دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ضد الحكومة الليبية، المعترف بها دوليا.
بداية التورط العسكري الفرنسي في ليبيا، كانت مع قيادتها تحالفا دوليا لدعم الثوار للإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011.
لكن مع دخول فرنسا مستنقع الحرب شمالي مالي في 2013، واكتشافها أن هذه التنظيمات تتخذ من جنوب غربي ليبيا قاعدة خلفية لها، أصبح نشاطها العسكري يمتد إلى هذا الجزء من ليبيا على الحدود مع الجزائر والنيجر، ولكن في شكل عمليات استخباراتية وخاصة، محدودة وغير معلنة، بحسب تقارير إعلامية.
ومع إطلاق حفتر، عملية الكرامة، في مايو/أيار 2014، ورفعه شعار “محاربة الإرهاب”، كانت فرنسا أول دولة أوروبية تقدم له الدعم.
وفي هذا الصدد، أشار مصدر عسكري، مناوئ لحفتر، في تصريح صحفي في يناير/كانون الثاني 2015، إلى أن أساليب مليشيات حفتر في القتال تغيرت، فبعد أن كانت هجماته عشوائية وأدت إلى هزيمته في مدينة بنغازي (شرق)، في الأشهر الأولى، أصبحت قدراتها في التخطيط وإدارة المعارك تتحسن، بفضل الدعم الذي حصل عليه من مستشارين وخبراء عسكريين فرنسيين ومصريين.
وهذا ما أكده اللواء جاد الله عبد السلام عبيدي، قائد الأركان السابق للجيش الليبي في طرابلس، في تصريح صحفي، أن الضباط المحيطين بحفتر يعرفهم جيدا وقدراتهم في التخطيط وإدارة المعارك “محدودة”.
وذكرت حينها عدة تقارير إعلامية، أن ضباطا فرنسيين يديرون غرفة عمليات تابعة لحفتر في بنغازي ودرنة (شرق).
ولم تكتف باريس بتقديم المشورة العسكرية لحفتر، بل وفرت له دعما دبلوماسيا لا يقدر بثمن، وأحبطت مساعٍ دولية لفرض عقوبات عليه.
** الاعتراف الأول
لكن أول اعتراف لباريس بوجود جنود لها في ليبيا، جاء بالصدفة بعد مقتل 3 جنود لها في تحطم مروحية عسكرية أسقطتها “سرايا الدفاع عن بنغازي”، بمنطقة المقرون، التي تبعد 80 كلم جنوب غرب بنغازي.
وأعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، في 20 يوليو/تموز 2016، أن العسكريين الفرنسيين الثلاثة الذين لقوا حتفهم في ليبيا كانوا ينفذون “عمليات استخباراتية محفوفة بالمخاطر”.
ورغم أن باريس، تعترف في العلن بحكومة الوفاق، إلا أن ذلك لم يمنعها من مواصلة دعمها الدبلوماسي واللوجيستي والعسكري لمليشيات حفتر.
** الاعتراف الثاني
وسقطت في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، طائرة استطلاع فرنسية صغيرة مستأجرة من لوكسمبوغ، بُعيد إقلاعها من مطار مالطا، وقتل ركابها الخمسة، الذين تبين فيما بعد أنهم يعملون لحساب وزارة الدفاع الفرنسية، وأنهم كانوا في مهمة سرية للاستطلاع في سماء مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، التي تضم أقوى الكتائب المناوئة لحفتر.
واتهمت عدة تقارير إعلامية بعضها فرنسية، بأن الدور العسكري للخبراء الفرنسيين يتمثل في توفير معلومات استخباراتية وصور فوتوغرافية دقيقة للغاية، تسمح بمراقبة قوات حكومة الوفاق في المنطقة، وإنشاء مقر للعمليات الميدانية، وتدريب عناصر حفتر في كيفية التحكم في الطائرات المسيرة (الصينية الصنع) المقدمة من الإمارات، بل ومشاركة قناصتها في المعارك.
وشاركت قوة فرنسية من القناصة في عملية السيطرة على مدينة درنة (شرق)، في 2018، والتي كان يسيطر عليها مجلس شورى مجاهدي درنة.
وما يؤكد هذه الاتهامات اعترافات طيار حفتر (عامر الجقم) الذي أسرته قوات الوفاق عقب سقوط طائرته في مدينة الزاوية (50 كلم غرب طرابلس)، في ديسمبر/كانون الأول 2019، وأقرّ أن عددا من الفرنسيين يدعمون مليشيات حفتر على الأرض، و”مهمتهم الرئيسية الدعم اللوجستي، والتنصت، والاستطلاع”.
وفي 14 أبريل/نيسان 2019، وبعد 10 أيام من هجوم مليشيات حفتر على طرابلس، أوقفت السلطات التونسية على الحدود مع ليبيا، قافلة فرنسية مشكلة من 24 أوروبيا منهم 13 فرنسيا محملة بـ”ترسانة من الأسلحة” بحسب توصيف البرلمان الفرنسي، وادعت باريس أن هذه “القافلة المسلحة” قادمة من سفارتها في طرابلس، غير أن هذا التفسير لم يكن مقنعا لأحد، بمن فيهم النواب الفرنسيون.
وأشار وزير الدفاع التونسي السابق عبد الكريم الزبيدي، أن الفرنسيين الـ13 الموقوفين يحملون جوازات سفر دبلوماسية، ورفضوا تسليم أسلحتهم للجهات الأمنية عند بداية توقيفهم، قبل أن يقبلوا بذلك لاحقا.
** الاعتراف الثالث
وجاء الاعتراف الثالث لباريس، بتقديم الدعم العسكري لحفتر، بعد أن تمكنت قوات الوفاق من السيطرة على مركز قيادة حفتر بمدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس) في هجوم خاطف استغرق ساعات في 26 يونيو/حزيران 2019، تمكنت خلاله من اكتشاف صواريخ “جافلين” الأمريكية المضادة للدروع.
وقالت وزارة الدفاع الفرنسية، إنها “اشترت الصواريخ من واشنطن، وأرسلتها إلى ليبيا لتستخدمها وحدة فرنسية، تم إرسالها من أجل مكافحة الإرهاب هناك، لحماية نفسها”.
لكن هذه المرة لم يمر الأمر بردا وسلاما على باريس، إذ طلبت حكومة الوفاق الليبية توضيحا منها حول تواجد عناصر من جيشها في مركز قيادة عمليات حفتر للسيطرة على طرابلس.
والضغط الرئيسي جاء من البرلمان الفرنسي ذاته، حيث أعلنت الجمعية الوطنية (الغرفة الأولى للبرلمان)، في 25 يوليو/تموز 2019، تشكيل لجنة مكونة من 30 عضواً للتحقيق في دور باريس في ليبيا.
وأدى انكشاف التورط الفرنسي العسكري السري في ليبيا، إلى ضرب مصداقية باريس كمفاوض محايد، رغم أنها أشرفت في مايو/أيار 2017، على توقيع اتفاق بين رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فائز السراج وحفتر، لم يلتزم به الأخير كعادته.
** هل خرقت فرنسا الأجواء الليبية الخميس؟
ورغم مشاركة فرنسا في مؤتمر برلين وتبنيها لمخرجاته، إلا أنه لا يوجد مؤشر على أنها التزمت فعليا بقراراته، حيث اتهم موقع الردار العسكري الإيطالي “Ita mil Radar”، طائرة تزود بالوقود (من طراز بوينغ C-135FR) تابعة لسلاح الجو الفرنسي، بخرق الأجواء الليبية، الخميس الماضي.
ويشير الموقع إلى أنه تم “تتبع الطائرة على الطريق المعتاد إلى وسط البحر الأبيض المتوسط، لكن عندما كانت بين سردينيا (جزيرة إيطالية) وتونس فقدنا الإشارة. وبعد 3 ساعات ونصف تظهر الإشارة مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت الطائرة تحلق باتجاه الشمال (عائدة إلى بلادها)”.
ويوضح الموقع أن الطريق الذي سلكته الطائرة “هو المسار المعتاد الذي تتبعه طائرات تزويد الوقود الفرنسية التي قامت بمهمة قبالة طرابلس، وأيضًا الفارق الزمني الذي يتناسب مع مهمة قبالة طرابلس، ولكن بدون أثر واضح لا يمكننا التأكد من ذلك”.
وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم طائرة عسكرية فرنسية من نفس الطراز، بخرق الأجواء الليبية، حيث قامت طائرة فرنسية في 18 يونيو 2019.
وليس واضحا ما هو دور هذه الطائرات، هل هو تزويد المقاتلات بالوقود في الجو؟ وهو أمر مستبعد لوجود مطارات لحفتر قريبة من العاصمة مثل قاعدة الوطية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، أو أن مهمتها ملأ خزانات الوقود في مطارات بعينها في غرب ليبيا.
وفي هذا الصدد، كشفت وسائل إعلام، في أبريل 2019، نقلا عن مستشار عسكري تابع لحفتر، أن القوة الفرنسية المتواجدة في ميناء السدرة النفطي (600 كلم شرق طرابلس) مكونة من عشرات الضباط (نحو 70 فرد بحسب مصادر إعلامية) مختصين بالطيران الحربي، وقامت بتفريغ خزانات المياه في الميناء استعدادا لتعبئتها بالوقود.
كما رست في نفس الفترة سفينة عسكرية فرنسية في ميناء السدرة، وتم تحويل المهبط النفطي للطائرات بالسدرة، إلى قاعدة جوية، بهدف حماية الحقول النفطية من أي هجوم لقوات الوفاق.
وهذا ما يؤكد أن فرنسا متورطة بشكل مباشر في الحرب بليبيا، ورغم دعواتها الرسمية بوقف إطلاق النار وتأكيد التزامها بقرارات مؤتمر برلين حول ليبيا، إلا أن ممارساتها على أرض الواقع تنفي الدعوات والتأكيدات الفرنسية.
اضف تعليقا