في مصر لا صوت يعلو فوق صوت الإجراءات التي تتخذها الحكومة في سبيل الحصول على باقي دفعات قرض صندوق النقد الدولي البالغ 12 مليار دولار.

وعلى الرغم من تصريحات حكومية سابقة بعدم وجود وقت محدد لرفع الدعم بصورة كاملة، كأحد أهم اشتراطات الصندوق للحصول على القرض، فإن وزير المالية عمرو الجارحي قال إن خطة الحكومة لرفع الدعم عن الوقود والطاقة مستمرة حتى عام 2022.

وقبلها بأيام، شدد الجارحي في تصريحات صحفية على أنه “لن يكون هناك تحريك لأسعار الوقود خلال العام المالي الحالي”.

بيد أن صندوق النقد كان له رأي آخر، محذرًا من هذه الخطة، ومطالبًا مصر برفع أسعار الوقود مجددًا قبل نهاية العام المالي الحالي.

التقرير الذي أصدره الصندوق، الثلاثاء الماضي، كشف نتائج المراجعة الأولى للاقتصاد المصري، مشيرًا إلى أن “مصر أقدمت على إصلاحات هامة وحاسمة في ملف إصلاح دعم الطاقة، لكنها لا تزال متأخرة”.

خبراء الصندوق رأوا في توصياتهم لمصر أن التزام الحكومة بالقضاء على دعم المواد البترولية في يونيو 2019، هو أمر مشجع، لكن تأجيل أي زيادة جديدة حتى العام المالي المقبل 2018-2019 ينطوي على مخاطر كبيرة تتعلق بارتفاع سعر البترول العالمي وأسعار الصرف.

سحق المواطن من أجل عيون القرض

وبين ما اتخذته الحكومة من قرارات وإجراءات اقتصادية صعبة، واشتراطات صندوق النقد، يقع المواطن البسيط فريسة لارتفاعات غير مسبوقة في أسعار السلع والخدمات الأساسية.

ويبدو أن الصندوق حاول تبديد مخاوف المصريين بشأن تداعيات القرض، فألزم الحكومة بما قال إنه “إجراءات الحماية الاجتماعية لحماية محدودي الدخل” في برنامج الإصلاح الحكومي، وأبرزها: زيادة الدعم النقدي للسلع الغذائية، التوسع في معاشات التضامن الاجتماعي، رفع المزايا التقاعدية، وخاصة لأصحاب المعاشات المتدنية؛ وغيرها.

وفي يناير الماضي أعلن محمد معيط، نائب وزير المالية لشؤون الخزانة العامة، في تصريحات صحفية زيادة مخصصات التأمين الصحي بمقدار 3 مليارات جنيه خلال 2017، وزيادة المعاشات ورفع الحد اﻷدنى ﻷي معاش يقل عن 500 جنيه، ورفع دعم السلع التموينية من 42 مليارا إلى 53 مليار جنيه، وزيادة مخصصات برنامج الدعم النقدي “تكافل وكرامة” بمقدار 2.5 مليار جنيه لتبلغ 6.6 مليار جنيه.

هذه الأرقام لم تنعكس بأي حال من الأحوال في صورة تحسن ملحوظ بمعيشة المواطنين، بشهادة “فخري الفقي”، مساعد المدير السابق لصندوق النقد الدولي، الذي أكد أن الحكومة لم تنجح في توفير غطاء اجتماعي لحماية الفئات الأكثر فقرًا ومحدودي ومعدومي الدخل، بالتزامن مع برنامج الإصلاح الاقتصادي.

فمنذ تعويم الجنيه في نوفمبر الماضي، توالت القرارات التي أثقلت كاهل المواطن وحملت عليه أعباء إضافية شكلت أضعاف ما تحصل عليه من زيادة طفيفة في الأجور.

بالعودة إلى قضية الوقود، فإن زيادة أسعار المواد البترولية، بعد تحرير سعر الصرف، تبدو هي مربط الفرس فيما يعانيه المواطن، نظرًا لارتباطه الوثيق بتفاصيل الحياة اليومية له.

فارتفاع أسعار الوقود تعني زيادة تعريفة المواصلات، وارتفاع أسعار السلع الغذائية والخضر والفواكه وغيرها من الحاجات الأساسية التي يتم نقلها بسيارات تستخدم الوقود.

زيادات الوقود كانت دراماتيكية في أقل من عام، بدأت في نفس يوم تعويم الجنيه، ثم كانت الزيادة الثانية في يوليو الماضي بنسب تراوحت بين 42% و100%.

“شريف إسماعيل” رئيس مجلس الوزراء، برر الزيادة الأخيرة بأن قيمة الدعم المخصص للوقود، في العام المالي الماضي، تخطت 85 مليار جنيه، وستغلق في العام المالي الجاري عند 110 مليارات، وفي حالة عدم رفع الأسعار كانت فاتورة الدعم ستصل إلى 150 مليار جنيه.

بلغة الأرقام الرسمية، انعكست تلك الزيادات المتتالية على ارتفاع في معدلات التضخم إلى 31% خلال النصف الأول من العام الحالي.

ليس هذا فقط بل تضمن برنامج الحكومة من أجل الحصول على القرض مجموعة قرارات أخرى أثقلت كاهل المواطن، أبرزها زيادة أسعار الاستهلاك المنزلي للكهرباء للمرة الثانية في يوليو الماضي بنسبة تصل إلى 41% بعد زيادات متتالية منذ يوليو 2014 تنفيذًا لخطة تحرير أسعار الكهرباء على مدى خمس سنوات، جرى تمديدها.

ومن المفترض أن توقف الحكومة دعم الكهرباء بحلول عام 2022، وبلغ إجمالي هذا الدعم خلال العام المالي الجاري 47.3 مليار جنيه.

وفي أغسطس الماضي قرر مجلس الوزراء رفع أسعار المياه والصرف الصحي للاستهلاك المنزلي والتجاري وفق شرائح محددة.

وبطبيعة الحال فإن زيادات الوقود والكهرباء والمياه وتعويم الجنيه، صاحبت إقرار الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 14%، والتي انعكست بشكل مباشر أيضًا على زيادات غير مسبوقة في أسعار السلع والخدمات، رغم تأكيد الحكومة أنها مشمولة بمهن ومنتجات معينة دون غيرها.

ما هي اشتراطات الحصول على القرض؟

عمليًا، حصلت مصر على 4 مليارات دولار حتى الآن قيمة الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي البالغة 12 مليارًا، على دفعتين الأولى في نوفمبر الماضي وقيمتها 2.75 مليار دولار، والثانية في يوليو الماضي بقيمة 1.25 مليار.

ومن المنتظر أن تحصل مصر على ملياري دولار كدفعة أولى من الشريحة الثانية للقرض في ديسمبر المقبل، وفق تصريح لوزير المالية.

ومن المقرر صرف الدفعة الرابعة بقيمة 2 مليار دولار في مارس 2018، والدفعة الخامسة بنفس القيمة في نوفمبر 2018، والدفعة السادسة والأخيرة بمليارين أيضًا فى مارس 2019.

إلا أن هذا البرنامج الزمني يخضع لتقييمات ومراجعات من قبل الصندوق، يتأكد من خلالها أن مصر تسير وفق الخطة التي طرحتها على الصندوق للحصول على القرض، وتتضمن تلك الخطة اشتراطات عدة وضعها الصندوق أبرزها:

-تحرير سعر صرف الجنيه.

-خفض عجز الموازنة تدريجيًا حتى يصل إلى المعدلات الآمنة عبر خفض إنفاق الحكومة على الدعم المقدم للمواطنين خاصة في الوقود والطاقة.

-تعزيز الإيرادات الحكومية عبر تطبيق ضريبة القيمة المضافة.

-خصخصة الشركات العامة وطرحها للقطاع الخاص سعيًا نحو تعزيز رأسمالية الاقتصاد.

-زيادة الاحتياطي الأجنبي من النقد عبر منح وودائع طويلة الأجل بالبنك المركزي المصري؛ حتى يصبح قادرًا على تغطية حاجة المستثمرين.

-تسوية مديونيات شركات البترول العالمية.

-تخفيض النفقات الحكومية.

لماذا؟

لكن يبقى تساؤل مهم، وهو لماذا سعت مصر إلى الحصول على القرض، وواجهت في سبيله تبعات كل تلك الإجراءات الاقتصادية القاسية؟.

بالطبع لجأت الحكومة إلى طلب التمويل من صندوق النقد بعد وصول الأزمة الاقتصادية لحالة غير مسبوقة من التراجع، لتدبير فجوة تمويلية تقدر بحوالى 35 مليار دولار لمدة 3 سنوات، وتمويل برنامج “الإصلاح الاقتصادي”.

كما تعد موافقة الصندوق على القرض شهادة ثقة دولية في الاقتصاد، ما يعزز ثقة المستثمرين ومؤسسات التصنيف الائتماني في السوق المحلي، بعد أن اهتزت خلال السنوات الماضية جراء الاضطرابات السياسية والأمنية.