مؤلمة هي تلك الصورة التي جمعته بممثل الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر التواصل الحضاري، وبذات القدر من الإثارة لكن في الاتجاه المعاكس لما كان يسببه دعاؤه على اليهود المحتلين من محراب الحرم المكي الشريف من إلهاب لمشاعر الملايين.
الشيخ عبدالرحمن السديس إمام الحرم المكي ورئيس شؤون الحرمين الشريفين، عاد ليثير الجدل مجددًا، بابتسامة عريضة علت وجهه خلال فعاليات مؤتمر التواصل الحضاري الذي عقد في نيويورك الأسبوع الماضي.
من الاحتلال إلى الصداقة
السديس ظهر بجوار شخص غير معروف -لكن تتضح هويته الدينية من خلال (القلنسوة) التي يرتديها على رأسه والتي تميز اليهود- ببشاشة وجه ربما لم تتكرر كثيرًا حتى في أشد لحظات الرجل فرحًا.
الصورة في حد ذاتها أثارت موجة من الرفض والاستنكار في أوساط العرب والمسلمين، توازي مكانة السديس وقيمته العلمية والروحية في نفوس ملايين طالما خشعت قلوبهم ودمعت أعينهم لآيات القرآن التي يتلوها مرارًا بصوته العذب ونبرته المميزة.
وكشفت الصورة حجم التناقض أو التحول الدراماتيكي في فكر ومنهج السديس، فهو الذي دعا مرات عديدة من فوق منبر المسجد الحرام على اليهود المحتلين الغاصبين، ولعل أبرز كلماته في هذا السياق خطبته المؤثرة في أعقاب اقتحام المسجد الأقصى وإغلاقه من قبل سلطات الاحتلال.
الآن، وبعد مرور أقل من 3 أشهر اختلفت الأوضاع، وأصبح اليهود المحتلون أصدقاء يلتقط السديس معهم الصور الودية ويتواصل ويتبادل معهم أطراف الحديث بكل أريحية وصفاء نفس.
البوصلة تبدلت إذن، لكن ليس من تلقاء نفسها، إنها توجيهات قيادة السعودية الجديدة ممثلة في ولي العهد أو الملك المنتظر الأمير محمد بن سلمان، الذي يسارع سرًا وعلنًا في التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
الدعاء لترامب
ومازلنا في مؤتمر التواصل الحضاري، الذي لم تقتصر فيه مواقف السديس المثيرة للجدل على قضية الصورة السابقة، بل كانت كلماته التي فتحت عليه أبواب الهجوم من كل حدب وصوب.
السديس دعا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما قال إنه والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز “يقودان العالم والإنسانية إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار والرخاء”.
ففي اللقاء المتلفز على هامش المؤتمر، دعا الله أن “يسدد الخطى ويبارك الجهود” في أعقاب قوله إن “السعودية والولايات المتحدة هما قطبا العالم للتأثير”.
“لا يعلم أنها تحتل العراق وأفغانستان وتدك مدن الشام”.. “في ذات اللحظة التي تحدث فيها السديس عن أمريكا التي تقود العالم للسلام كانت أمريكا حينها ترتكب مجزرة في دير الزور وتدمر مسجدًا في الرقة”.. كانت هذه أجزاء يسيرة من سيل التعليقات التي انهالت على الرجل فور نشر المقطع السابق عبر هاشتاج دشن له خصيصًا (#السديس_أمريكا_تقود_العالم_للسلام).
في خدمة السلطان!
الخطيب المفوه الحاصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه، يبدو أنه سخّر علمه ولسانه وجوارحه لينطق بما يريده السلطان، حت تحول لمجرد أداة في يد الملك.
وقد يكون من الصعب أن يُحصر عدد تلك المرات التي دعا فيها السديس للملك سلمان وقيادة السعودية، وبالغ في المدح والثناء عليهم.
الأخطر من ذلك كله أن السديس ليس خطيبًا في أي مسجد ولا يقف على أي منبر، إنما هو منبر الحرم المكي الذي تَصغَى إليه أفئدة المسلمين أجمعين.
الأزمة الخليجية ألقت بظلالها أيضًا على السديس، الذي أبى أن يأتي متأخرًا عن ركاب السلطة، وعبر تعبيرًا بليغًا عن تأييده لحصار قطر، بل استغل محراب الكعبة في الدعاء على قطر.
ففي إحدى صلوات التراويح رمضان الماضي، دعا السديس مطولًا بالهلاك على من وصفهم بقوله “ـمن دعم وموّل الإرهابيين”، الأمر الذي فُهم من سياقه أن المقصود به قطر، كما ألمح إليها بقوله أيضًا: “أهل الشقاق والعناد والافتراء”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يتماهى فيها السديس مع مواقف السعودية من القضايا الإقليمية والدولية، ويسخر منبر المسجد الحرام في سبيل ذلك.
ففي مارس 2014، خلال عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، صنفت السعودية جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، فكان السديس حاضرًا عبر بيان أيد فيه القرار، وأسهب في تبيان ما يعبر عنه من بصيرة وحكمة يتمتع بها الملك عبدالله، وغيرها من الأوصاف.
تأييد الفض و”خناقة” الشريم
قبل ذلك بأشهر كانت أبرز مواقف السديس المثيرة للجدل في خدمة توجهات السلطان، الذي كان معروفًا حينها بدعمه المطلق لنظام ما بعد 3 يوليو 2013 في مصر.
ولعل الجميع يتذكر خطبته الشهيرة في أعقاب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، فلم يعبر فقط عن تأييده للفض ولا للنظام الجديد الذي “سيعيد لمصر هيبتها ومكانتها”، بل كال الاتهامات الشنيعة لجماعة الإخوان وفترة حكمهم التي لم تدم إلا عامًا واحدًا.
ومما قاله عن الجماعة في هذه الخطبة أنهم: “أراقوا الدماء ونثروا الأشلاء.. اختزلوا حقائق الإسلام في أسماء مستعارة وشعارات وافدة ختارة تمترست خلف التطرف الفكري الذي تنصل من الاعتدال والوسطية، فنجم عن ذلك الإرهاب المسلح والإقصاء”.
على النقيض تمامًا جلبت تلك الخطبة انتقادات لاذعة للسديس وجهها صديق عمره وتوأمه في إمامة الحرم المكي، حيث ارتبط اسمهما على مدار عقود، الشيخ سعود الشريم.
انتقادات الشريم التي كانت تلميحًا وليس تصريحًا، جاءت من خلال مجموعة تغريدات هجومية تستنكر ما قاله السديس في خطبة الجمعة.
وقال الشريم في إحداها: “اجعل رضا الرحمن غايتك ولا تركن إلى رضا الناس، فإنك حبيبهم فيما يهوون، وعدوهم فيما يكرهون (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)”.
كما غرّد: “استغلالك الأزمات لترمي ذا الحق بأنه حزبي، إنما هو ديدن خصوم الرسل مع يقينهم بصدقهم (قالوا إنما أنت من المسحرين) استغلوا شيوع السحر فاتهموه به!”.
مسيرة السديس في تأييد الحاكم وتبرير قراراته وتوجهاته، والإتيان بما يعضدها من أدلة شرعية، سوف تواجه اختبارا صعبا ومنعطفًا خطيرًا نظرًا لتوجهات السعودية الجديدة وما ينتظرها من “علمنة” بشر بها السفير الإماراتي في أمريكا يوسف العتيبة، فهل يستطيع السديس مجاراة تطورات المملكة أم يبتعد عن المشهد ويخلي الساحة لغيره؟.
اضف تعليقا