التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، عوامل عدة ساهمت في إشعال الصراع على النفوذ شرق أفريقيا، وكانت تركيا جزءًا منه.

لم يكن اختيار تركيا للصومال من أجل إنشاء أكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد من فراغ، نظرًا للأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها هذا البلد المسلم الذي يعاني اضطرابات داخلية طاحنة.

القاعدة التي افتتحت، السبت الماضي، في العاصمة مقديشو بتكلفة 50 مليون دولار، ينتظر أن تسهم في تدريب أكثر من 10 آلاف جندي صومالي، وإعادة بناء قوة وطنية مدربة جيدًا تمثل الشعب الصومالي.

لكن لماذا اختارت تركيا الصومال تحديدًا ليكون مقرًا لقاعدتها العسكرية الأكبر خارج حدودها، وما الثمار التي يمكن أن تجنيها أنقرة من وراء القاعدة؟.

خليج عدن بعد “العربي”

افتتاح القاعدة التركية في الصومال التي تطل على خليج عدن، يأتي بعد أشهر قليلة من افتتاح قاعدة مماثلة في قطر المطلة على الخليج العربي، وبهذا تضع لها موطئ قدم في هذه المنطقة الحساسة بعد أن ثبتت أركان تواجدها العسكري اللافت في الخليج العربي.

تركيا تدرك جيدًا أهمية الصومال بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات، وباعتبارها ممرًا مهمًا للطاقة في العالم من خلال خليج عدن ومضيق باب المندب، كما الحال في الخليج العربي.

الصومال و خليج عدن

إضافة إلى ذلك، فإن الثروات الكثيرة التي يمتلكها الصومال والمخزون النفطي، يجعلها تدخل بقوة ضمن سياسة عامة تنتهجها تركيا للتأثير على المستويين الإقليمي والدولي.

يكتسب مضيق باب المندب أهمية دولية كممر مائي دولي، تشقه ناقلات النفط في طريقها من منابع الجزيرة العربية وإيران إلى أوروبا وأمريكا الشمالية عبر قناة السويس.

ومما يعزز تلك الأهمية كونه الممر الرئيسي للصادرات النفطية الخليجية والمنتجات الواردة من دول شرقي آسيا، وكونه مفتاح الملاحة البحرية في البحر الأحمر، فضلاً عن أنه يربط بين خليج عدن والبحر الأحمر.

تعبر المضيق سنويًا 21 ألف قطعة بحرية، ويمر من خلاله نحو 30% من نفط العالم أي نحو 3.3 مليون برميل.

صراع النفوذ في المنطقة

الإصرار التركي على الوجود القوي في تلك المنطقة الاستراتيجية، يقود إلى طبيعة الصراع على النفوذ هناك بين العديد من القوى الدولية والإقليمية.

ففي جيبوتي الملاصقة للصومال ترابض الحاميات الأمريكية والفرنسية واليابانية، وينتظر افتتاح أخريين سعودية وصينية، وفي مياه خليح عدن تتمركز السفينة الأمريكية “وايتني ماونت” الأحدث عالميًا في مجال التجسس.

هذه الدولة الصغيرة تحتضن خليطًا لا مثيل له في أي دولة بالعالم من القواعد العسكرية، التي تتمتع بخصوصية شديدة وتشكل كل منها دولة داخل الدولة.

وفي أكتوبر الماضي، أرسلت إيران سفينتين حربيتين إلى خليج عدن، لتنتزع لنفسها موطئ قدم عسكريًا في المياه قبالة اليمن حيث يسيطر على تلك المناطق الحوثيون المدعومون من طهران.

نتنياهو فى رحلة الى أفريقيا

كما يتمتع الاحتلال الإسرائيلي بعلاقات وثيقة في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية مع دول شرق أفريقيا، مستغلًا في ذلك الغياب العربي والإسلامي عن المنطقة المهمة من العالم.

هذه الصورة الموجزة تكشف إلى حد كبير خريطة المنطقة وطبيعة صراع النفوذ فيها، الأمر الذي حتّم على تركيا أن تكون جزءًا من هذا الصراع وتوسع نفوذها، وتوجد لها موطئ قدم فيها.

دوافع النفوذ التركي

يبدو أن تركيا تحاول لعب دور عالمي وتريد ترسيخ نفسها كدولة بتوجهات “أفرو-أوراسية”، ويتسق هذا مع الفكر السياسي للقيادة التركية من حيث إن تركيا دولة مركز وليست دولة جسر أو هامش، ويأتي توجهها لكل من شرق وشمال إفريقيا أكثر من غرب وجنوب إفريقيا لاستشعار تركيا أن فرصها بشكل عام ستكون أفضل هناك.

تاريخيًا، تسعى تركيا للاستفادة من الميراث العثماني وربطه بالمعطيات الحالية, وقد تواجد العثمانيون في مناطق شمال وشرق إفريقيا على طول ساحل البحر الأحمر وأجزاء مطلَّة على خليج عدن؛ حيث استمر حكم العثمانيين لحوالي 397 سنة في السودان و350 سنة في كلٍّ من الصومال وجيبوتي وإريتريا وكينيا وأجزاء من إثيوبيا.

السلطان عبد الحميد الثاني

الاقتصاد يعد من أهم الدوافع لدى تركيا، فقد ارتفعت صادرات تركيا إلى دول شرق إفريقيا في 2013 إلى 813 مليون دولار وبلغت قيمة الواردات 160 مليون دولار، وتحاول تركيا حاليًا زيادة حجم تجارتها مع إثيوبيا التي تعد صاحبة أكبر استثمار تركي في شرق إفريقيا حيث تبلغ، على سبيل المثال، قيمة مشاريع السكك الحديدية هناك والتي تنفذها شركات تركية 1.7 مليار دولار.

وزاد التعامل التجاري سريعًا بين تركيا والصومال، وفي عام 2010 بلغت الصادرات التركية للصومال 5.1 مليون دولار فقط. ولكن بحلول العام الماضي ارتفعت بشكل كبير إلى 123 مليون دولار، وخلال فترة ست سنوات أصبحت تركيا خامس أكبر دولة مصدرة إلى الصومال بعد أن كانت في المركز العشرين.

كما تسعى تركيا التي تتطور في مجال التصنيع المحلي للأسلحة أن تجد لمنتجاتها أسواقًا واعدة يكون لها فيها اليد الطولى بهذا الأمر.

ترسيخ القوة الناعمة

لكن السؤال الأبرز هو كيف مهدت تركيا لأن تكون لها تلك المكانة في الصومال على وجه التحديد ؟

“استطاعت تركيا حقًا أن تكسب قلوب وعقول الشعب الصومالي”، ربما تجيب هذه الكلمات التي جاءت على لسان وزير الإعلام الصومالي عبد الرحمن عمر عثمان، أكتوبر الجاري، على التساؤل بوضوح.

ولمزيد من التفصيل، فإن العام 2011 يعتبر نقطة الانطلاق التي أوصلت تركيا إلى الوضع الحالي، ففي أغسطس من هذا العام وصل أردوغان الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك إلى العاصمة الصومالية مقديشو في زيارة غير مسبوقة بهدف لفت أنظار المجتمع الدولي لحجم المجاعة التي تجتاح الصومال، على الرغم من الأوضاع الأمنية المتردية في البلاد، واعتبر أول زعيم غير أفريقي يزور الصومال من عقود.

أردوغان فى زيارة الى الصومال

الزيارة عززت الحملة الإنسانية والدبلوماسية الواسعة التي تقوم بها أنقرة للتصدي للجفاف في الصومال، وفي عام 2015 كرر أردوغان “الرئيس” زيارته للصومال، تحت إجراءات أمنية مشددة، ووعد بمزيد من الاستثمارات في البلاد.

وإلى جانب المساعدات الإنسانية غير المحدودة التي تقدمها هيئة الإغاثة التركية والهلال الأحمر التركي بشكل دائم للصوماليين، أقامت الحكومة التركية العديد من المشاريع الضخمة في البلاد من أجل تطوير العاصمة والمؤسسات الحكومية والخدمات العامة للسكان.

الهلال الأحمر التركي

 

هيئة الإغاثة التركية

وعملت المنظمات الإنسانية التركية على بناء مخيمات للنازحين وملاجئ للأيتام ومراكز لتوزيع المساعدات الإنسانية، إلى جانب مشاريع تنموية ضخمة وبناء شوارع في العاصمة وبناء أكبر مستشفى في تاريخ الصومال يحتوي على كامل التجهيزات والمختبرات الطبية، كما تعمل تركيا على بناء مبنى جديد للبرلمان الصومالي، وفق تقارير إعلامية.

ومنذ عام 2011 تستقبل تركيا أكبر بعثة تعليمية صومالية في العالم، كما عملت الخطوط التركية على دعم مطار العاصمة وتسيير رحلات أسبوعية من وإلى مقديشو.

وهكذا راكمت تركيا أعمالها الإنسانية لزيادة قوتها الناعمة، وبالتالي الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، تزداد بمرور الوقت.