المتابع للتصريحات السياسية والإعلامية الفرنسية خلال الأيام الأخيرة يداخله بعض اللبس وعدم الفهم لأسباب التغير المفاجئ في المنهج والأسلوب معا، إذ لا ينسى المتابعون للشأن الليبي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أول رئيس أوروبي استقبل خليفة حفتر مما ساعده على إضفاء الشرعية السياسية التي كانت تعوزه قبل ذلك اللقاء، كما أن أيادي الخبراء العسكريين داخل معسكرات حفتر كانت لافتة للعيان ولم تحاول باريس إخفاءها، بل لقد ظهر عدد من الخبراء المقربين من الرئيس ماكرون علنا في اكثر من موقع تسيطر عليه قوات حفتر.
ولكن بالمقابل بدأت تصريحات الفرنسيين مؤخرا وخصوصا في الإعلام الرسمي مثل قناة فرنسا 24 التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية تتغير وأصبحت تطلق على قوات حفتر مصطلح “الميليشيات المسلحة” في مقابل إطلاق مصطلح “القوات الشرعية” على قوات طرابلس وهو تغير ينبئ بأن فرنسا عدلت جزءا من خطابها بعد أن أدركت تغير موازين القوى على الميدان بعد الدعم التركي المباشر الذي كثيرا ما انتقدته في وقت سابق.
فقد أطلق الرئيس الفرنسي ماكرون تصريحات استفزازية ضد تركيا خلال مؤتمر برلين واتهمها بمحاولة لخلق البلبلة في ليبيا . مما جعل المتحدث باسم الخارجية التركية حامي أقصوي، يرد على هذه التصريحات بالقول إن ماكرون حاول خلال المؤتمر “خلق أجندة عبر إطلاقه مزاعم بعيدة عن الحقيقة ضد بلدنا” مؤكدا أن استمرار هجمات حفتر ضد حكومة الوفاق الشرعية كان بدعم عسكري من عدة دول بينها فرنسا، معتبرا ذلك أكبر تهديد لوحدة أراضي ليبيا وسيادتها واضاف “إذا كانت فرنسا تريد المساهمة في تنفيذ قرارات مؤتمر برلين فعليها أولاً إنهاء دعمها لحفتر”.
ولم تنس وزارة الخارجية التركية أن تذكر بالدور الفرنسي المشبوه في إثارة البلبلة والنعرات والتدخل المباشر وغير المباشر في الشأن الليبي منذ عقود سواء قبل سقوط حكم معمر القذافي أو بعده.
ويزخر التاريخ الفرنسي بالتدخلات في ليبيا، إذ سبق ونشرت صحيفة لوموند الفرنسية عام 2016 تقريرا عن تنفيذ وحدات من القوات الخاصة والمخابرات الفرنسية عملية سرية ضد متشددي داعش الإرهابي في ليبيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وقالت الصحيفة إن الرئيس فرانسوا أولوند في وقتها، وافق على “عمل عسكري غير رسمي” تنفذه وحدة من القوات الخاصة وخدمة العمليات السرية لوكالة المخابرات الفرنسية في ليبيا.
من جانب آخَر، برز تدخُّل فرنسا في دعم مليشيات حفتر بعد اعترافها بمقتل أفراد تابعين لها في طائرة استطلاعية بمنطقة المقرون جنوب شرق ليبيا، حسب ما ذكره موقع مونت كارلو الدولية. وثبتت مشاركة جنود فرنسيين في الهجوم على مدينة درنة بعد تمركز ضباط فرنسيين بمنطقة الأرادم غرب درنة متخذين مقرّاً لهم في أحد مباني المنطقة، وقد شاركوا في عمليات قنص لعدد من قادة شورى درنة في أثناء الهجوم على المدينة، وقد ساهمت باريس بدعم حفتر استخباراتيّاً وتجهيز غرف عمليات وتدريب ضباط ليبيين على الطائرات المُسيَّرة، بخاصة في قاعدة الخروبة التي تُعتبر نقطة وجود القوات الفرنسية بشكل خاص والأجنبية بشكل عامّ. وفي شهر جويلية الماضي، صدر بيان عن وزارة الدفاع الفرنسية، قال إن باريس اشترت صواريخ من واشنطن، وأرسلتها إلى وحداتها في ليبيا، لكنها لم تسمح بنقلها لأي طرف في الصراع، في الوقت الذي أكدت فيه واشنطن بيع الصواريخ التي عثر عليها في قاعدة لحفتر إلى فرنسا في وقت سابق.
انتهى الآن كل هذا التمويه والتزييف وانكشفت كامل أوراق اللعبة وأدركت فرنسا أن الوصول إلى صيغ تفاهمات مع الأطراف المتنازعة معها في ليبيا، أصبحت بالغة التعقيد، بعد دخول تركيا وورسيا على خط المنافسة في الملف الليبي، ومع زيادة الفاعلية للاعبين الجُدد في ليبيا وتحقيق نوع من التوازن العسكري في مناطق الاشتباكات الساخنة، أصبح الهمّ الأوروبي لفرنسا يتجّه نحو التهدئة أكثر من الاعتماد على الحسم العسكري، كما أن الرؤية الفرنسية لطبيعة الحل في ليبيا تتناقض مع الرؤية الايطالية فقد حاول ماكرون سنة 2017 جمع فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني واللواء خليفة حفتر في باريس بهدف تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وتكللت جهود ماكرون في شهر أيار/ مايو 2018 حينما قدّم مبادرة فرنسية بمشاركة موسّعة شملت عدد من الشخصيات الليبية، وضمت رؤساء المجالس الثلاث مجلس النواب، المجلس الرئاسي، المجلس الأعلى للدولة، وأهم ما جاء في هذه المبادرات هو التأكيد على الحل السياسي والاتفاق على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مع حلول نهاية عام 2018 ، لكن المبادرة فشلت بسبب اعتراض بعض الاطراف الدولية المنخرطة في الأزمة الليبية على التحرك الفرنسي الفردي، حيث رأت ايطاليا أن المبادرة الفرنسية ما هي إلا محاولة فرنسية للهيمنة على الملف الليبي.
وتبدو الأحداث الأخيرة من تمكن القوات الشرعية من تحرير كامل الغرب الليبي مع قاعدة الوطية الاستراتيجية علاوة على تطهير كامل طرابلس وصولا الى ترهونة منذرة بتغير نهائي في المعادلة السياسية بما ينبئ بان فرنسا ستكون الخاسر الوحيد في المنطقة بسقوط كل أهدافها السياسية والاقتصادية بعد ان راهنت على الجواد الخاسر وانهار عميلها المدلل خليفة حفتر تاركا وراءه خسائر فادحة في الأرواح وفي الأرصدة المالية لداعميه وكذلك في الموقع الاستراتيجي لمن راهنوا عليه.
اقرأ أيضاً: تأجيل إكسبو .. الاقتصاد الإماراتي أمام خيارات مرة أحلاها بطعم العلقم
اضف تعليقا