يقول المحللون إن غياب التواجد الأمريكي في ليبيا سمح بتعميق توغل الجهات المنافسة لها، حيث تثير حرب الوكالة المتصاعدة تهديدات للمصالح الاقتصادية والأمنية الأمريكية، وفي المقابل توفر لروسيا منصة لتوسيع نفوذها في البحر الأبيض المتوسط.
إن موقف الولايات المتحدة على هامش الصراع الليبي، الذي يُعقده عدم اليقين بشأن الجانب الذي تدعمه واشنطن، يكتسب أهمية جديدة، لأن روسيا وتركيا وربما مصر يقومون بتثبيت تواجدهم في ليبيا بالمعدات العسكرية والمقاتلين.
يري دبلوماسي غربي أن: “الولايات المتحدة توجد خارج اللعبة بشكل أساسي”، وأضاف أن “الليبيين غير قادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، ويعتمدون بالكامل على الجهات الأجنبية، فالوضع غير مستقر ويظهر انقياد الجهات المحلية بالكامل للجهات الأجنبية”.
أصبحت ليبيا في الأشهر الأخيرة منطقة حرة لجميع القوى الإقليمية والأوروبية، ومعظمهما متحالفة مع الولايات المتحدة.
قامت هذه القوى بملء الفراغ الأمني والسياسي، وقدمت الدعم للحكومتين المتنافستين، ما ترتب عليه انقساماً واضحاً بين دول الناتو في وقت يتم الاستعانة فيه بالمرتزقة من روسيا وسوريا ودول الصحراء الإفريقية في بحث عن فرص مالية.
حذر الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيريش”، من أن النزاع دخل مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر بسبب التورط العسكري الأجنبي “غير المسبوق”، ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، خاصة بعد قيام المقاتلون المنسحبون بزرع المتفجرات في المناطق السكنية، بالإضافة إلى “معركة محتملة” قد تقوم بالقرب من مدينة “سرت” على طول الساحل الليبي، حيث يجلب كل طرف ذخائر أثقل للقتال.
يوضح الوضع الراهن في ليبيا آثار “الانخراط العشوائي” في قضايا السياسة الخارجية من قبل الرئيس “ترامب”، وذلك بإعلان دعمه لزعيم الفصيل المنافس لحكومة تدعمها الأمم المتحدة، الحاكم العسكري “خليفة حفتر”.
في الأسابيع الأخيرة، دعا “ترامب” إلى وقف القتال في محادثات مع قادة مصر وتركيا وفرنسا، حيث دق المسؤولون العسكريون الأمريكيون ناقوس الخطر بشأن عمليات النشر العسكرية الروسية الجديدة التي قد تهدد الأصول البحرية الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط.
يلفت الوضع الفوضوي الانتباه أيضًا إلى حقيقة أنه بالامتثال لقرار حظر الأسلحة، ربما تكون الولايات المتحدة قد قللت من قدرتها على تشكيل مستقبل ليبيا.
مع ذلك، فإن الحرب في ليبيا لا تأتي في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يركز البيت الأبيض على الصين وإيران ورغبة “ترامب” في تقليص دور أمريكا في صراعات المتمردين، وكل ذلك على خلفية وباء فيروس كورونا والانتخابات الأمريكية التي تلوح في الأفق.
صرح “عماد الدين بادي”، الخبير في الشؤون الليبية وكبير زملاء المجلس الأطلسي أنه: ” لسوء الحظ، تتنازل الولايات المتحدة عن نفوذها، وجميع الدول التي استفادت من غياب الولايات المتحدة تستفيد الآن”.
وأكد أنه في السنوات التي تلت المساعدة في تنفيذ العملية -بقيادة الناتو- التي أطاحت بالدكتاتور “معمر القذافي” عام 2011، قلصت الولايات المتحدة من مشاركتها في ليبيا، حيث نظرت إلى الدولة المنتجة للنفط في شمال إفريقيا من خلال “عدسة مكافحة الإرهاب” وحثت الدول الأوروبية على تولي عجلة القيادة.
حتى يومنا هذا، يدين العديد من الليبيين الولايات المتحدة، لعدم تقديمها المزيد من المساعدة في أعقاب الربيع العربي، بينما حاول الدبلوماسيون الأمريكيون لسنوات بناء شرعية حول حكومة الوفاق الوطني التي توسطت فيها الأمم المتحدة، وظل دعمهم -الذي ازداد بحذر- ضعيفًا ويعتمد على مجموعات الميليشيات من أجل الحماية.
في غضون ذلك، أعرب المسؤولون الأمريكيون عن سخطهم على “حفتر” وهو ضابط عسكري سابق تمتع بدعم وكالة المخابرات المركزية في الثمانينيات والتسعينيات، وتمسك برغبته بعد سقوط “القذافي” في السيطرة على الأوضاع بالقوة.
انتهى هجوم “حفتر” العسكري الذي استمر لمدة عام للاستيلاء على العاصمة في أوائل يونيو/حزيران، بعد أشهر من إرسال الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الدعم للدفاع عن حكومة الوفاق الوطني.
يبدو أن الدافع وراء وجود روسيا هي المصالح الاقتصادية التي ستجنيها من ليبيا كواحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، وموقعها في الجناح الجنوبي لأوروبا.
قالت الأدميرال “هايدي بيرغ”، كبير ضباط المخابرات في القيادة الأمريكية لأفريقيا، والذي اتخذت خطوات غير عادية، حيث شجب التدخل الروسي في ليبيا علنا قائلاً: “إن موسكو تحاول وضع نفسها كوسيط للسلام، وفي المقابل تقوم تأجيج الصراع خلف الكواليس”.
وصف “بيرغ” في مقابلة تلفزيونية روسيا بأنها ” سبق لها أن شغلت مقعدًا على طاولة المفاوضات وكان لها تأثيراً “غير مبرر” على النتيجة، ولكنها أصبحت الآن تقريبًا المُحاور الرئيسي على الطاولة”.
وأضاف “هذا يسلط الضوء على ما تريده روسيا، وهو المكانة الدولية والقدرة على فرض التكاليف على المجتمع الدولي بحيث تكون هي الشخص صاحب الكلمة على طاولة المفاوضات”.
ستستفيد روسيا أيضًا إذا نفذ الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” تهديد الشهر الماضي بإرسال جيشه إلى ليبيا في حال وصلت قوات حكومة الوفاق إلى الشرق القريب من مصر.
يقول مسؤولون أمريكيون إن مصر، وهي من أنصار “حفتر” منذ فترة طويلة، تقوم باستعدادات عسكرية لتدخل محتمل.
وضع الصراع دول الناتو ضد بعضها البعض مثل فرنسا، التي يقول مسؤولون أمريكيون إنها تدعم “حفتر”، وتتعهد بأنها لن تتسامح مع “اللعبة الخطيرة” لتركيا في دعمها لحكومة الوفاق الوطني.
في مواجهة المناورات السريعة في ساحة المعركة، يقول الدبلوماسيون الأمريكيون إنهم واصلوا جهودهم “القوية”، التي كانت في الغالب وراء الكواليس، لدعم تسوية سياسية في ظل سياسة يصفونها بأنها “الحياد النشط”.
مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية، والذي تحدث مثل المسؤولين الآخرين بشرط عدم الكشف عن هويته لأنهم غير مصرح لهم بالتحدث علناً، علق على الأمر قائلاً: “أولاً وقبل كل شيء، هذه مشكلة أوروبية”.
وأكد المسؤول في إشارة إلى الحرب في سوريا حيث زادت المهام العسكرية لإيران وروسيا من إراقة الدماء: “نحن مستمرون في محاولة حل هذه المشكلة، ولكن هذا الأمر معقد للغاية، وهو إضفاء طابع الصراع السوري على ليبيا”.
وكمثال على استمرار المشاركة الأمريكية، استشهد المسؤولون بمشاركة وزير الخارجية “مايك بومبيو” هذا العام في قمة ليبيا في برلين، حيث وضعت عدة دول بما في ذلك روسيا وفرنسا خطة فاشلة لوقف إطلاق النار في نهاية المطاف، ودعوا إلى إنهاء العنف، حتى أن بعضهم كانوا يقدمون دعماً سرياً لطرف ليبي أو آخر.
وصرح المسؤول في إشارة إلى ميليشيات مسلحة مرتبطة بالكرملين تدعى مجموعة “فاغنر” أن “العديد من حلفائنا وشركائنا الإقليميين، بالإضافة إلى قوات المرتزقة الروسية، جعلوا الأمر صعبًا للغاية” مضيفاً “عندما نذهب إلى أحداث متعددة الأطراف ونحصل على التزامات من حلفائنا وشركائنا على احترام حظر الأسلحة ومن ثم يرفضون القيام بذلك، فهذا يزيد الأمر تعقيداً”.
زادت الرسائل المختلطة من واشنطن التعقيدات، حيث أبدى مسؤولو البيت الأبيض، لا سيما في ظل مستشار الأمن القومي السابق “جون بولتون”، ترحيبهم بتعهد “حفتر” باستئصال الإسلاميين الذين ازدهروا في فوضى ما بعد الثورة في ليبيا، ويبدو أن “ترامب” وقع على الهجوم العسكري “لحفتر” خلال مكالمة في أبريل/نيسان 2019، مما أعطى تصورًا بأن الولايات المتحدة تدعم رسميًا الرجل القوي كزعيم شرعي لليبيا.
سعى المسؤولون الأمريكيون منذ ذلك الحين إلى توضيح موقفهم لدعم التسوية السياسية بدلاً من اختيار أي جانب معين.
في تعليقه على السياسة الأمريكية، صرح “جليل الحرشاوي”، المحلل الليبي في معهد كلينجينديل في لاهاي: “أن لغة الجسد الأمريكية ما زالت مهمة للغاية”.
بينما تستعد موسكو للاستفادة في حال إذا أرسلت مصر قوات إلى ليبيا، وهي خطوة من شأنها أن تسلط الضوء على نفوذ واشنطن المنحرف على مصر، على الرغم من تلقي 1.3 مليار دولار من المساعدات الأمريكية سنويًا إلا أن تقارباً حدث بين القاهرة وموسكو، حيث اشترت الأسلحة الروسية وعززت مؤخرًا اتفاقية للطاقة النووية.
على الرغم من هذه التهديدات، من غير المرجح أن تزيد إدارة “ترامب” مشاركتها في ليبيا بشكل كبير، وحتى في الأماكن التي تكون فيها المصالح الأمريكية أكثر وضوحًا، كانت السمة الثابتة لسياسة “ترامب” الخارجية هي رغبته في تقليل تدخل الولايات المتحدة في الصراعات الخارجية.
السؤال هنا: ما الذي يمكن لواشنطن – حتى لو قامت بدور أكثر نشاطاً – أن تفعله في وقت أظهرت فيه دول أخرى استعدادها لاستخدام القوة العسكرية؟
في نهاية المطاف، يوجد روس على الأرض “لذا ما لم تكن على استعداد لبذل هذا الجهد، فلن يتغير ذلك، بل ستستمر روسيا في أن تصبح أقوى وأقوى”.
ترجمة العدسة عن صحيفة نيوز 24 الفرنسية.. للاطلاع على المقال الأصلي اضغط هنا
اقرأ أيضًا: رغم تحذير تركيا .. السيسي يلعب بالنار ويوشك أن يورط الجيش المصري في مستنقع ليبيا
اضف تعليقا