توقعت أطراف عديدة أن يخضع فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية المعترف بها دوليا للإملاءات والضغوط العالية المسلطة عليه من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا ويتخذ خطوات تم الإعداد لها سلفا تقوم على جره إلى حل المجلس الرئاسي والاستقالة الفورية بعد الانتهاء من المرحلة الانتقالية والشروع في الإعداد للانتخابات البلدية والتشريعية، حتى تمهد السبيل لهذا المسار تم استبعاد العميل الأمريكي خليفة حفتر من المحادثات الجارية في مدينة بوزنيقة المغربية في محاولة لإخفائه عن الأنظار والادعاء بأنه لم يعد يحظى بنفس الدعم القديم الذي كان يلقاه وهي محاولة بائسة لا تنطلي على أحد.

وتم استخراج أحد الشيوخ المرتبكين من أرشيف مجلس نيابي لم يعد موجودا أصلا على أرض الواقع بعد أن استقال منه الأغلبية ومات من مات ولم يبق موجودا إلا كهيكل يتم استعماله كلما تفتقت قريحة أعداء الشعب الليبي على إحدى الدسائس كريهة الرائحة.

المفاوضات في بوزنيقة أثمرت بعض الإشارات التي ظنتها الدول الراعية بصيص أمل في الانقضاض على الفرصة بدفع فائز السراج للاستقالة فكان أن أعلن أنه سيتقدم باستقالته خلال شهر أو يزيد ، وكان الهدف طبعا أن يتم الالتفاف على الاتفاق الذي عقدته الحكومة الليبية المعترف بها مع الدولة التركية باعتبار أن الطرف الذي استدعى القوات التركية الداعمة للشعب سيتحول إلى جهة مستقيلة متناسية أن المعاهدات بين الدول لا تسقط بتغير الحكومات لذلك سارعت الولايات المتحدة بإعلان تقديرها لما وصفتها الشجاعة السياسية التي تحلى بها رئيس وزراء ليبيا فايز السراج وتنحيته المصالح الشخصية، تعليقا على إعلان نيته تسليم مهامه إلى السلطة التنفيذية القادمة، في موعد أقصاه نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.

لم تستطع الإدارة الامريكية إخفاء سرورها بالخطوة التي أعلن عنها السراج وتغافلت عمدا أو سهوا عن التصريح الذي أطلقه رئيس حكومة طرابلس والذي رمى فيه الكرة في ملعب لجنة الحوار المشكلة مناصفة بين مجلسي النواب والدولة. بعد أن أصبح منوطا باللجنة إعادة تسمية مجلس رئاسي جديد، وقد حدد لها السراج مهلة لا تزيد عن نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل بتشديده بكل وضوح على أن تكون لجنة الحوار قد استكملت أعمالها. أي أنه وضع سقفا أقصى لنهاية مهمته، وربطه بنجاح لجنة الحوار. وهنا مربط الفرس، فلجنة الحوار مشكلة منذ 2015، لكنها لم تنجح في تحسين الوضع الأمني، ودخلت البلاد في عدة حروب وجولات حوار في تونس وجنيف وبوزنيقة المغربية دون حلول أو اتفاقات تذكر.

وترجح أوساط مطلعة أنه في حالة استقالة السراج نهاية أكتوبر، دون أن تتمكن لجنة الحوار من تسمية بديل له، فقد يقود ذلك إما لفراغ سياسي، أو تولي أحد نوابه رئاسة المجلس بالنيابة، إلى حين التوصل إلى اتفاق بين مجلسي النواب والدولة، أو تراجع السراج عن الاستقالة لتفادي مزيدا من الانسداد.

وتبقى المكاسب التي حققتها الحكومة الشرعية كبيرة بل هائلة بعد أن استطاعت الصمود أمام كل المناورات الدولية التي تحاول محاصرتها والتضييق على علاقاتها مع الدولة التركية التي غيرت قواعد اللعبة السياسية والعسكرية  بأكملها، كما تمكنت من رمي ورقة العميل المهزوم خليفة حفتر ولم يعد ينعقد حوله إجماع المتربصين الطامعين، علاوة على الخروج من المشهد لدويلات البترول التي كانت تقصف الشعب الليبي الأعزل مثل إمارة الابل التي دخلت نفق الخيانة زحفا على البطن. ويبقى أكبر مكسب تم تحقيقه هو إخراج فرنسا الاستعمارية من المعادلة السياسية في الملف الليبي بعد أن فشلت مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في استدراج رئيس الحكومة الليبية الشرعية فائز السراج، للجلوس مرة أخرى مع الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، لإعادة دمجه في العملية السياسية، إذ سارع الناطق باسم رئيس المجلس الرئاسي الليبي غالب الزقلعي، بنفي ما نشره موقع “أنتلجنس أونلاين” الاستخباراتي الفرنسي عن لقاء يجمع السراج مع حفتر، في باريس. ورغم تأكيده أن رئيس المجلس الرئاسي تلقى دعوة لزيارة فرنسا لم يحدد موعدها، إلا أن الزقلعي، شدد على أنه لن يكون هنالك لقاء يجمع السراج بحفتر “لا في المستقبل القريب ولا البعيد، مهما كان حجم الوساطات الدولية”.

الآن وفي هذه المرحلة الحساسة من عمر الشعب الليبي بدأت تبرز ملامح موقف صامد عارف بالمصلحة والحقوق والامكانيات المتاحة وبالأطراف المتداخلة في هذا الملف الشائك ويمكن التأكيد على أنه لا خوف على الشعب الليبي من اغتيال ثورته وحلمه في الكرامة والحرية بعد أن أيقن أن جميع الدول متربصة به طامعة في ثروته ولا هم لها إلا مصالحها الضيقة ولم يصدق منهم سوى الدولة التركية التي قدمت كل ما تملك فداء للدم العربي المسلم ورغم أنها تجد نفسها عرضة للحصار والتهديد فإنها لم تتراجع وثبتت في امتحان الصبر والمبادئ السامية.