في المدينة الجامعية، كان لنا زميل يؤم المصلين بمسجد المبنى نناديه “الشيخ”. أفتى للطلاب مرة أن مشاهدة مباريات كرة القدم لا تجوز. عرفنا ذلك حين رفض صديقنا المولع بمباريات الكرة الذهاب معنى إلى المقهى، بعدما قرر أن “يلتزم” ويضحي بالمحرمات من أجل رضا الله. وكان أول ما أفتاه الشيخ به هو أن متابعة كرة القدم لهو ولعب ويصل حد الحرمة والاعتداء.
اللافت للنظر هنا، أن الشيخ لم يكن يحب كرة القدم أصلا. كنا نعرف عنه ذلك جيدا. لا يحبها ولا يستمتع بها ولا يعرف عن عالمها شيئا.. بيد لنا حين جادلناه بعدها أن فتواه نابعة من هوى شخصي وكراهية نفسية لا أكثر. وكانت حجته الوحيدة: ما فائدة مشاهدة المباريات؟ أليس عملا سخيفا لا طائل من ورائه؟ كان الشيخ نفسه يقضى أكثر لياليه يلعب معنا كرة المضرب حتى الصباح!
بعد أيام، اعتزل صديقنا المولع بالكرة المصلى، ورافق علبة السجائر من جديد. كان مقتنعا جدا أن “التدين والالتزام” أمر لا طاقة لأمثاله به. أنى له أن يعتزل متابعة كرة القدم ويبقى في غرفته يسمع بين الحين والآخر صيحات الجالسين على المقاهي، بينما هو محروم دون أن يعرف السبب، ودون أن يفهم لماذا لو شاهد المباراة يكون قد ارتكب حراما!
خطير جدا أن تُفتى الناس بالهوى، وتقحم اختياراتك الشخصية وأهوائك النفسية في الأمر المقدس، وتطلق بين الحين والحين فتوى تخلع عن الناس ما يرونه ملح الحياة، مصدرا حكم الحرمة القاطع، تاركا الناس أسرى لمعاناة الالتزام المستحيل والصواب المتوهم غير الممكن.
الأمر يحصل أيضا خارج نطاق الفتاوى، يمكنك أن تلحظه في مواقف حياتية وسياسية كثيرة، تتكرر كل يوم أمام عينيك دون أن تنتبه لها، ودون أن تحسب لها حسابا.. خذ مثالا:
قبل أسابيع، صالحت حماس سلطة عباس برعاية نظام السيسي في مصر. تباينت ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي بين مصدوم وفرحان ومؤيد ومعارض، لا بأس فالأمر سياسي، لكن ردود أفعال البعض وحدهم كانت تستحق التأمل.
صديق أعرفه منذ سنوات يكره حركة حماس، لاعتبارات لا داعي لذكرها هنا. فور انتشار خبر المصالحة شن الشاب هجوما شرسا على الحركة التي تنازلت وضيعت ثبات السنوات. لا مشكلة في أن يكون هذا رأيه، السياسة تقبل كل رأي، لكن منشوراته السابقة واللاحقة تحمل مفاجأة مفجعة.
الرجل كما عرفناه دائم الانتقاد للقيادة السياسية المصرية المعارضة لنظام السيسي بمختلف أطيافها، ويرى أنهم مقصرون لأنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن ينجزوا مصالحة وافية مع النظام، ومتعجبا من الإصرار في معركة صفرية دون مقومات النصر. ويعتبر أن الاستمرار في معارك خاسرة مكابرة وجحود. هكذا يقول.
جميل، لكن لماذا اختلف الرأي حين تعلق الأمر بضيف جديد، هو هو؟ لا جواب هنا سوى الهوى، الهوى الذي يتحكم في النفوس ويحدد ردود الأفعال؟ كيف فجأة تحول الوصول إلى الحالة المثالية التي تنادي بها، خائنا، دون سبب منطقي سوى رغبتك الخاصة وموقفك غير المحايد؟
لا بأس إذا كنت مزاجيا وتعترف بهذا، لكن الكارثة التي تحصل في كل حالة مثل تلك، أن صاحبها يحاول أن يخلع عليها صفات الشمولية والاطراد، فيخرجها في هئية فتوى حاسمة أو بيان سياسي مقفل، دون أن يلتفت لأمزجة المزاجيين من حوله، وهم كثر.
تعلم جيدا كيف تفرِّق بين الفتاوى والمواقف والآراء النابعة من دراسة وتحليل، وبين تلك التي تأتي استجابة لطموحات شخصية وأيدولوجية جدا بعيدا عن أي ملامح للمنطق الجمعي القاطع.
وتذكر أن الأدلة لا تكون أدلة إلا إذا كانت مستغرقة كل الأمزجة والأمكنة والحالات، وهي أمور نادرة الحدوث في الفكر الإنساني لو تعلم، لذلك قالوا إن الخلاف يسع الجميع،. فتخفف من التصلب والجمود حيال كل غير ثابت، وراجع قائمة ثوابتك جيدا، فربما بعض الثوابت قد تسللت إلى قائمتك دون أحقية.
اضف تعليقا