في أمر مثير للسخرية، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقال رأي كاتب مصري مغترب انتقد فيه الواقع المصري من ديكتاتورية الحاكم -عبد الفتاح السيسي- واستبداده، وانتشار حملات قمع المعارضين والثوار داخل البلاد، وملاحقتهم خارجها.
تنشر هآرتس هذا المقال بكل ما يحمله من هجوم على السيسي وانتقادات لسياسات حكمه وانقلابه على الديموقراطية، متجاهلة فكرة أن الحكومة الإسرائيلية من أكبر داعمي عبد الفتاح السيسي ومن أوائل القوى التي وفرت له الإمدادات اللازمة لسرقة حلم الثورة.
فيما يلي ترجمة لما جاء في المقال:
قبل عقد من الزمان، أشعلت شرارة أمل في تونس حرائق غابات الديكتاتورية السياسية في الشرق الأوسط، والتهمت ألسنة اللهب الحرس القديم، واحدًا تلو الآخر. سقط العديد من الحكام المستبدين في جمهوريات العالم العربي: زين العابدين بن علي في تونس، وعلي عبد الله صالح في اليمن، ومعمر القذافي في ليبيا.
الانتصار الأكبر حينها كان ما حدث في مصر، حين اتجهت كل أنظار العالم نحوها بعد نزول الملايين إلى الشوارع، ليس فقط للإطاحة بالديكتاتور، ولكن أيضًا للمطالبة بـ “العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية”، وبالفعل استطاع المصريون فعلها، وأطاحوا بمبارك، في يوم يُعد من أعظم الأيام في الذاكرة الحية المصرية؛ ليكتشف المصريون وقتها أن خوفهم كان أسطورة في داخلهم، وفزاعة هم صنعوها، لا وجود لها، وتأكدوا أنهم يمتلكون الإرادة الجماعية والثبات للتحرك وإزالة الجبال.
للأسف، وبعد عقد من الزمان، يبدو أن كل شيء ذهب هباء، إذ تبدل الحال للأسوأ، وحل على رأس البلاد طاغية بكل ما -تحمله الكلمة من معنى- محل ديكتاتور شبه سلطوي، استطاعوا المصريون قهره بالفعل.
منذ استيلائه على السلطة عام 2013، كان عبد الفتاح السيسي في مهمة ذات عقلية واحدة لقتل كل ثمار الثورة وجعل شعبه يندم على قراره بفرك مصباح الثورة السحري وتمني الحرية والديموقراطية، لذلك عزم بإرادة قوية على استعادة السيطرة من الشعب، وبدلاً من التعامل بمبادئ الثورة، فضل الجنرال العسكري استخدام القوة الساحقة والعنف، بل وصل به الأمر أن قتل أكثر من 1000 مواطن في يوم واحد، كما اعتقل نظام السيسي وأخفى عشرات الآلاف من النشطاء والمعارضين والثوار والصحفيين من جميع الأطياف السياسية، مما جعل السجون المصرية أكثر مؤسسات الدولة في احتوائها على عدد كبير من المنادين بالديموقراطية.
الواقع في مصر يدعو للشعور بالحزن والعجز والذنب بالنسبة للمغتربين الذين يحملون أفكاراً معارضة، الحزن بسبب الحياة المحطمة للملايين والفرصة الضائعة لتحويل بلد به الكثير من الإمكانات إلى مكان يخدم مواطنيه بدلاً من اختزالهم بالعبودية، والعجز لأنه ما من سبيل لمواجهة استبداد هذا النظام أو محاسبة الدول التي تقوم بتسليحه، والذنب لأنه بينما يراقب البعض الأحداث من مسافة آمنة، لا زال الملايين مستمرين في الوقوف عند خط النار.
أدى النجاح الساحق للثورة المضادة إلى عودة الكثيرين إلى الفكرة القديمة القائلة بأن الديمقراطية لا تعمل في مصر ولا في المنطقة بأسرها، لكن تأتي تونس لتؤكد أنها الاستثناء الذي يتحدى الأعراف ويثبت أن الحكم الاستبدادي لا يجب أن يكون هو القاعدة في العالم العربي.
ومع ذلك، في مصر، كما هو الحال في كثير من أنحاء المنطقة، ليس الناس هم من لا يفهمون الديمقراطية، ولكن قادة البلاد هم الذين يرفضون قبولها، المعادلة صعبة، أمر منطقي ألا يستطع الأشخاص الراغبون في الحرية والكرامة تحقيق أهدافهم طالما أن الطرف الآخر هو جيش مدجج بالسلاح يرفض الانسحاب من السياسة، يعاني قصوراً في القيادة ناتجًا عن عقود من القمع.
إذاً، فإن الفكرة السائدة بأن الشعب المصري اعتاد العبودية ولا يمكن إلا لفرعون أن يحكمه هي فكرة غير دقيقة، ومهينة، السيسي ليس فرعوناً، إنه لا يحظى بشعبية كبيرة، وعلى الرغم من كونه سلطويًا، كل ما في الأمر أنه يمتلك سلطة مسلحة، يرى البعض أنها قوة، لكن في الراقع فإن اعتماد نظامه الكبير على العنف علامة ضعف وليس قوة.
إذن ما الذي يخبئه المستقبل لمصر؟
على الرغم من أن الأفكار والتطلعات التي أيقظتها الثورة المصرية قد تعرضت لمحاولات كثيرة لوأدها، إلا أنها لا تزال حية، وهي الآن تستقطب شريحة أكبر من السكان مما كانت عليه عندما تولى السيسي السلطة، حتى أن العديد من أنصاره لم يعد يعتبرونه بطلًا أو منقذًا لهم، وعلى الرغم من هزيمة الثورة السياسية في الوقت الحالي، إلا أن الثورة الاجتماعية تسير على قدم وساق.
ومع ذلك، لا يوجد حاليًا مساحة في المشهد السياسي لأي تغيير إيجابي؛ فالسيسي لا يتسامح مع أي معارضة فحسب، بل يشعر بالرعب أيضًا من أي تحدٍ محتمل لسلطته، إن أوضح انعكاس لذلك هو كيف قام بترهيب وسجن كل من كان يخطط للترشح للرئاسة في “الانتخابات” السابقة، والتي “فاز” بها بشكل غير مفاجئ بنسبة 97 بالمائة من الأصوات.
هذا مقلق للغاية بالنسبة للمستقبل، على الرغم من أن مصر لم تغرق حتى الآن كما حدث سوريا أو ليبيا، فإن هذا الاحتمال القاتم ليس مطروحًا على الطاولة، ومع ذلك، كلما زاد السيسي من العنف والقمع، زادت احتمالية إشعال النظام صراعًا واسع النطاق.
على الرغم من أن الدولة المصرية لم تفشل بالكامل بعد، فهي بالتأكيد على طريق الفشل، منشغلة بإثراء الجيش، وفي المقابل تفشل باستمرار في تقديم الخدمات التي يتوقعها المواطنون من حكومتهم.
في الواقع، بالنسبة لغالبية المواطنين، أصبح وجود الدولة في حياتهم قمعيًا بالكامل تقريبًا، وأكثر من ذي قبل، وبدون أي تغيير حقيقي، ستنتهي مصر قريباً في مكان مظلم للغاية.
ومع ذلك، ورغم كل هذا القمع والاستبداد، وبعد عشر سنوات من الربيع العربي، لم تنجح محاولات حاكم مصر في سحق المعارضة في القضاء على الأفكار التي أيقظتها.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا