“لقد غيروا طبيعتها، وانتزعوا روحها، واستبدلوا حياة المسلمين الأولى بأخرى رأسمالية حديثة”.. هكذا تحولت “مدينة الزهد” التي يزحف إليها الملايين كل عام ليخلعوا على عتباتها أحمال المادية المسيطرة على العالم، إلى عملاق بنائي متضخم آخذ في التسارع بشكل غير قابل للاستيعاب.. وبعد أن كانت منازل الصحابة ومشاهد الإسلام الأولى تحاوطك من كل اتجاه عند زيارة مدينة الله المكرمة، باتت اليوم ناطحات السحاب تحاصرك في كل مكان.

عشرية سوداء من “التوسعات والتحديثات” التي يجريها آل سعود على مكة، أفسدت طابعها وشوهت روحها، واستأصلت ما تبقى منها من ميراث الصحابة، وزاحمت فيها روائح المطاعم الفاخرة والأبراج المترامية الارتفاع، عبير الزهد والورع الذي صاحب اسم المدينة المقدسة على مدار قرون من تاريخ الإسلام.

تحديثات آل سعود للمدينة المقدسة، جاءت وبالا على روحها، هدموا بيت الصديق أبي بكر لإقامة فندق هيلتون، وحولوا بيت السيدة خديجة لمراحيض عامة، وأزالوا الرواق العثماني العتيق، وحولت السعودية، مكة من عاصمة الروحانية، لمدينة رأسمالية حديثة بشعة.

آل سعود و إنشاءات الحرم المكي

عودة للواجهة

عادت تلك القضية للواجهة مجددا مع ما أثاره الأكاديمي الأمريكي من أصل لبناني، أسعد أبو خليل، من جدل بعد تغريدة انتقد فيه التصميم المعماري للمباني التي تحطي الحرم المكي في السعودية، موجها أسهم انتقاده لآل سعود.

وكتب أبو خليل تغريدة عبر صفحته الرسمية على موقع تويتر، في 14 يناير الجاري، قال فيها: “لو لم يكن لي عداء سياسي للنظام السعودي, لكانت هذه تكفيني لعدائه. انظروا البشاعة: وضع معايير الذوق المبتذل في أبنية لاس فيغاس على مكة”.

حديث أبو خليل جاء مصداقا لما نشرته مجلة “نيوزويك” الأمريكية في تقرير لها من أن حكام السعودية خططوا عامدين لإعادة تشكيل مدينة مكة المكرمة، بحيث تبدو مثل “لاس فيجاس جديدة”، لكن في شبه الجزيرة العربية. ونقل التقرير عن نقاد قولهم إن إعادة إعمار المدينة بهذه الطريقة سيحرمها من المظهر الديني، خاصة أنها تعد أقدس مكان في الإسلام، وفيها أول بيت وضع للناس.

محكمة المطبوعات تغرّم الصحافيين أسعد أبو خليل وإبراهيم الأمين | | أخبار | أخبار | سكايز ميديا | مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية

ويشير التقرير إلى أن إعادة بناء مكة بهذا الشكل الحديث جداً يحرمها من الطابع الديني والروحي؛ باعتبارها محط أنظار الساعين لأداء الحج، أو على حد وصف مدير معهد الشؤون الخليجية في واشنطن علي الأحمد، فإن “لقد غيروا طبيعتها، وانتزعوا روحها، واستبدلوا حياة المسلمين الأولى بأخرى حديثة”، وأضاف: “إنه يشبه لاس فيغاس أكثر من كونه موقعا دينيا، لقد تجاهلوا بشكل كبير المعالم والثقافة المحلية”.

كُلفة غالية

عمليات الإفساد الممنهج للمدينة المقدسة لم يُدفع ثمنه من روحها فقط، بل من أرواح زائريها، ففي عام 2015، تحطمت رافعة في المسجد الحرام في مكة المكرمة، ما أسفر عن مقتل 107 أشخاص. ووقعت حادثة سقوط آلة رافعة في الحرم المكي مساءً يوم الجمعة 11 سبتمبر 2015 في مشروع توسعة المسجد الحرام. وخلفت هذه الحادثة حوالي 238 جريحاً حسب ما أعلن عنه الدفاع المدني السعودي.

وعلى الرغم من الفاجعة، والفشل الواضح للسلطات في إدارة ملف الحج، إلا أن المحكمة الجزائية في مكة المكرمة قضت لاحقا ببراءة 13 متهما، بينهم مجموعة بن لادن للمقاولات، في القضية واستندت إلى أن نشرات هيئة الأرصاد الجوية الخاصة بيوم الحادثة واليوم السابق له لم تتضمن أي تحذير من وقوع إعصار أو عاصفة تستدعي اتخاذ إجراءاتٍ احترازية!

قرار المحكمة جاء مخالفا لما أكدته لجنة التحقيق في الحادثة حينها، التي أرجعت سقوط الرافعة على جزء من المسعى بالمسجد الحرام والطواف إلى أنها كانت في وضعية خاطئة ومخالفة لقواعد التشغيل. وبناء على ذلك، تقرر إيقاف تصنيف مجموعة بن لادن ومنعها من دخول أي مشاريع جديدة ومنع سفر جميع أعضاء المجموعة حتى انتهاء التحقيقات، كما قررت السلطات منح تعويضات لذوي القتلى وللمصابين.. لكن فجأة، ذهب كل ذلك أدراج الرياح!

دعوة للتدويل

وأمام هذا “الإفساد الممنهج” للمدينة المقدسة، تتعاظم الدعوات لتشكيل لجنة إسلامية عالمية تشاركية لإدارة ملف الحج، وتعالت أصوات تطالب بفصل إدارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة عن السعودية وإسنادها إلى هيئة مستقلة تعمل على تنظيم الحج والعمرة وتحرص على أمن وسلامة الحجاج والمعتمرين وفصل كل العوامل والخلافات السياسية عن الشعائر الدينية، ودعوة السعودية لأن تسمح لدول إسلامية أخرى بالمشاركة في تقديم المشورة بشأن صيانة الموقع، وهو الأمر الذي يرفضه آل سعود بشكل قاطع وعنيف.

المسؤولون السعوديون وصفوا أي محاولة لتدويل مكة بأنها “عمل من أعمال الحرب”، وقالوا إن مكة لم تصنف بأنها موقع تراث عالمي لمنظمة اليونسكو، وبأن الحكومة السعودية حرة في ترميم الموقع وإعادة تشكيله.

وبالنظر إلى الحجج التي ساقها المطالبون بـ “تدويل الحج” لتبرير دعوتهم، يتضح أنها منطقية وإن كانت فرص تطبيقها ضئيلة جدا أما التصلب السعودي وسيطرتها على الأراضي المقدسة بقبضة أمنية، على الرغم من الفشل الواضح للسلطات السعودية في إدارة شؤون الحج والتضييق على الحجاج الذين ينتمون لطوائف إسلامية مختلفة وحرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية، في انتهاك لحقوق ملايين المسلمين الذين يرفضون تحويل السعودية للمشاعر المقدسة إلى شأن خاص وعدم وضع أي اعتبار للاختلافات الفقهية والمذهبية.

ولا تزال سلطات آل سعود تواصل حملتها الممنهجة لإفساد المدينة المقدسة، وهدمت البسيط والمتواضع والفطري والأثري والتاريخي، وأقامت بدلًا من هذا كله الضخم العملاق المتوحش، وحاصرت الكعبة مما جعل حجمها هو الأكثر ضآلة، بل تكاد تتلاشى كمقياس أمام طوفان المشروعات العملاقة لنجد أن أبراج البيت أكبر بكثير من أكبر مبنيين على الإطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية.. لتستكمل “بلدوزرات” آل سعود تحقيق ما عجز عنه كفار قريش!

اقرأ أيضًا: مات القاتل.. أسرة عمر خورشيد تتلقى عزاءه بعد 40 عامًا.. ماعلاقة صفوت الشريف؟