25 يناير كان بداية سقوط مبارك… وبداية استحواذ الجيش على السلطة أيضاً
في وسط المكان الذي بدأ فيه كل شيء، كان المواطن المصري “منصور محمد” متواجداً داخل “كشك” مغطى بالقماش المشمع على العشب الأخضر الوحيد بين أميال من الخرسانة والأسفلت، استمر هكذا لمدة 10 أيام، كان يأكل وينام مع غرباء يربطهم شيء واحد: الغضب!
كانت الثورة في كل مكان، تتزايد مع تزايد توافد الحشود الهائلة من المواطنين الذين طالبت هتافاتهم بالتغيير، ورجت أصواتهم أنحاء ميدان التحرير في القاهرة، مركز انطلاقة الثورة المصرية، التي تعتبر جزء أساسي من ثورات الربيع العربي.
“لن أنسى هذا الصوت أبداً”… هكذا قال منصور متذكراً أيام الثورة، متابعاً “كانت أقوى ضوضاء سمعتها في حياتي… كان الصوت أعلى من صوت 10 طائرات مجتمعين.. لقد كان تحرير البلد من ستة عقود من الخوف”.
بعد عقد من الزمان، تبدل كل شيء ظاهرياً، تم زرع قطعة من العشب تقف عليها مسلة جديدة، تشير إلى السماء في تذكير صارخ بأوقات اليقين الراسخ، تتحرك حركة المرور هناك بهدوء حول دوار خالي من المتظاهرين أو أي محاولات تُذكر للتحدي والاعتراض.
الشرطة السرية متمركزة في مكان قريب، ولكن بصورة ليست سرية. لم تعد هناك أحاديث عن الثورة أو أهدافها -إلا نادراً-، وأي محاولة شعبية للعودة لإحياء ذكريات الماضي تصفعها اليد الثقيلة للدولة العسكرية التي رسخت نفسها حاكماً للبلاد في أعقاب الثورة.
ومن منصور إلى معاذ عبد الكريم، قصة أخرى للاحتجاج، بدأ الأمر بشكل مختلف لمعاذ ورفاقه في 25 يناير/كانون الثاني 2011، إذ اجتمعوا داخل شقق على الجانب الآخر من النيل وشقوا طريقهم إلى متجر الحلويات، حيث استعدوا لتغيير التاريخ.
موقعهم كان بعيداً عن مرمى سيارات الشرطة وخارج تغطية الأجهزة الأمنية التي كانت تمسح المدينة بحثاً عمن أطلقت عليهم “المخربين” الذين نشطتهم انتفاضة تونس التي أجبرت الديكتاتور زين العابدين بن علي إلى الهروب خارج البلاد.
كان للممرات الضيقة في حي الفضل في مساعدة هؤلاء الشباب في الفرار من شرطة مكافحة الشغب، بالإضافة إلى تمكنهم من حشد المؤيدين من خلال منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كان لها دور كبير في تحطيم “الوهم” بأن قوات الرئيس حسني مبارك أقوى من أن يواجهها أي تجمع.
سرد معاذ -الذي يعيش الآن في المنفى في أوروبا- ذكريات هذا اليوم قائلاً “اجتمعنا في المخبز مبكراً، كانت هذه خطوة من الخطة، إذ كانت مهمة مجموعتنا البقاء في المخبز في ساحة مصطفى محمود لمراقبة موقف الشرطة وهل ستهاجم المتظاهرين أم لا… في نفس الوقت، كان هناك مجموعات مختلفة ننسق معها”
وتابع “كنا نفكر إذا استطعنا النجاح، فسنحصل على مصر أفضل وإذا فشلنا فسنموت أو نقضي حياتنا كلها في السجن… منذ ولادتي لم أعرف رئيساً غير مبارك، لذلك كان حلمي الدائم أن أرى رئيس آخر من عائلة أخرى”.
وذكر معاذ أن مهمة مجموعته “جمع كل المتظاهرين معاً حتى لا تتمكن الشرطة من السيطرة عليهم”، مضيفاً “إذا كان هناك عدد قليل من المتظاهرين، يمكن للشرطة ببساطة أن تعتقلهم وبالتالي إفشال التحرك… لهذا سرعان ما استطعنا جمع 2000 شخص ولم تستطع الشرطة السيطرة على الوضع… في تلك اللحظة أدركت أننا نجحنا، لأنني رأيت الناس من جميع الطبقات؛ مستويات اقتصادية مختلفة، غني وفقير، كبار وصغار، جميعهم على قلب رجل واحد”.
على التوازي، كان الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للحشود للتجمع في مناطق القاهرة، والتجمع في الأماكن العامة قد أدت إلى خلق زخم لا يمكن إيقافه، لهذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي “أهم أداة في الثورة”- كما قال معاذ الذي أضاف “لقد طغى المنشقون على دولة مبارك البوليسية بحساباتهم الذكية والفيسبوك حيث يمكن للناس التواصل بسهولة والتعبير عن أنفسهم دون أي رقابة”.
بحلول 28 يناير/كانون الثاني، أصبح ميدان التحرير بوتقة مطالب لا هوادة فيها نحو مصر جديدة، وفي غضون أسبوعين، كانت قد وضعت بذور زوال مبارك.
الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، سحب دعم واشنطن الطويل للرئيس المصري، الذي حكم لمدة 30 عامًا.
بعد ذلك جاء التحدي للجيش المصري، الذي وقف مع الثوار فيما تصاعدت مطالبهم، قال أوباما: “لقد خدم الجيش على نحو وطني ومسؤول بصفته راعيًا للدولة.. وسيتعين الآن ضمان انتقال ذي مصداقية في نظر الشعب المصري”.
قالت سلوى جمال، وهي من مؤيدي الثورة التي أُجبرت على الفرار من مصر عام 2014: “لم نكن نعلم.. لكن الأكيد أنه منذ تلك اللحظة، كان الجيش يخطط لتولي السلطة”.
أما نانسي عقيل، الناشطة والباحثة المصرية، قالت إن يوم تنحي مبارك الذي وافق 11 فبراير/شباط، رغم رغبتنا في انتقال سلس إلى الديمقراطية “كانت أسوأ لحظة بالنسبة لي”… “رأيت الدبابات وعلمت أن الجيش سيتولى زمام الأمور… رأيت عساكر يوزعون الزهور وينظفون الشوارع ويمسحون الكتابة من على الجدران… في الواقع، كانت بداية محو آثار الثورة”.
وأضافت نانسي “في تلك الفترة، كان الشعب ينكر سوء نية الجيش.. كان يردد أن الجيش بجانبنا. لكننا نعرفهم ونعرف كيف يديرون الأشياء”.
في عام 2012، أجريت انتخابات ديمقراطية وفاز أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في مصر، محمد مرسي، وهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين، وبعد أقل من عام، تمت الإطاحة بمرسي في انقلاب قاده وزير الدفاع آنذاك، اللواء عبد الفتاح السيسي، الذي حل البرلمان وحظر جماعة الإخوان المسلمين، وقاد أقوى حملة قمع ضد المعارضة، مستمرة حتى اليوم، وبصورة ما فاز السيسي في دورتين رئاسيتين حتى الآن.
منذ ذلك الحين، حاول الرئيس المصري الجديد القضاء على كل بقايا الثورة بقمع المعارضة وسحق أي دعوة للتغيير، في عهده تم القضاء على المجتمع المدني في مصر، وأجبر الفنانون والمفكرون والصحفيون والأكاديميون على الصمت أو النفي – أو السجن، كما تم إعاقة المعارضة السياسية، أو استقطابها.
بل استطاع السيسي بصفقات معينة أن يجتذب الدعم العالمي، ففي أوائل ديسمبر/كانون الأول، قدم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للسيسي وسام جوقة الشرف، وهي أعلى جائزة مدنية في فرنسا، متجاوزاً سجل حقوق الإنسان الذي وصفته المنظمات غير الحكومية العالمية بأنه دموي وشيطاني، إذ يوجد في السجون المصرية حوالي 60 ألف سجين سياسي.
على الرغم من القمع، قال خالد منصور، المدير التنفيذي السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن العديد من الذين دعموا الثورة سيفعلون ذلك مرة أخرى في وقت ما، مضيفاً “كانت ثورة يناير بالتأكيد نقطة تحول لكن ليس بالضرورة أن تنجح من أول مرة”.
وأضاف: “الشيء الوحيد الذي لديهم والذي يسمح لهم بالبقاء في السلطة هو القوة”… “الحفاظ الاستقرار، وانقاذ الاقتصاد، الحماية من الإرهاب، تهديدات الأمن القومي” جميعها مبررات يستخدمها النظام لوأد أي حراك نحو التغيير.
“ما نحتاجه ليس مصر ذات توجه واحد، ولكن مكانًا يمكن فيه للفصائل المختلفة التحدث مع بعضها البعض والانخراط في حوار سياسي دون مخاوف وجودية تطغى على الأمور… هل يمكننا التعافي؟ سيستغرق الأمر فترة طويلة من النقد الذاتي والتأمل وإعادة الحسابات، وهذا أمر صعب للغاية الآن”.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا