“مملكة من القرون الوسطى؛ حيث ما تزال المرأة تكافح من أجل الحصول على الحقوق الأساسية، وتُقطَع رؤوس المدانين المحكوم عليهم بالإعدام بالسيف على الملأ على نحو روتيني”.. هكذا استهل مجلة الكاتب الصحافي روبرت ف. ورث، المدير السابق لمكتب صحيفة « نيويورك تايمز» الأمريكية في بيروت، تقريره الفريد عن أكذوبة مشروع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان “نيوم”، واصفا كيف تبدو المملكة العربية السعودية، بالنسبة لبقية العالم.
أحلام طوباوية كاذبة يروِّج لها بن سلمان حول إنشاء مدينة سعودية جديدة بمواصفات عصرية وطبيعة حياتية متقدمة، فضح تقرير ف. ورث خفاياها المنطوية على واجهة لمشروعات باهظة التكاليف تخفي تحتها أسوأ توظيف للديكتاتورية الرقمية، متسائلًا: هل يقبل المرء العيش في هذه المدينة الخاضعة للمراقبة على مدار الساعة، والخاضعة لأهواء أمير قاتل يداه مُخضَّبة بالدماء؟
وفيما يسعى العالم لتوظيف التطور التقني والتكنولوجي الهائل في تنمية حياة الشعوب ورفع رفاهيتهم، فإن قصر الحكم في السعودية أخذ الأمر في منحى مغاير تماما، إذ تعد المملكة من أعلى دول المنطقة العربية إنفاقا على المشاريع الرقمية، لكن لخدمة أخرى، وهي توظيفها في السيطرة على البلاد بقبضة رقمية حديدية غير قابلة للاختراق.
وإذ تمثل مشاريع بن سلمان للذباب الإلكتروني، والسيطرة على منصات التواصل، وحجب المواقع المعارضة، واعتقال الناشطين، وغيرها من وسائل السيطرة الرقمية على البلاد، فإن مشروع نيوم يمكن اعتباره بلا شك الثمرة النهائية لهذه الخطوات، فيما يمكن أن نصفها بمدينة القمع الرقمي.
أحلام طوباوية
يشير ورث إلى أن السعوديين أطلقوا الآن العنان للخيال على نحو يجعل كل جهودهم المُضنية السابقة مُذلَّلة وقابلة للتحقيق. وأطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للبلاد، فيلمًا قصيرًا في شهر يناير يوضح خططه لمشروع ذا لاين (the Line)، وهي مدينة ذات بيئة متطورة للغاية (ما بعد الحداثة) تُبنَى على الساحل الشمالي الغربي للمملكة. وستكون المدينة عبارة عن قطاع حضري ضيق بطول 170 كيلومترًا (106 أميال) بلا طرق، بلا سيارات، بلا تلوث.
ويخطط ولي العهد، محمد بن سلمان، لضخ 500 مليار دولار في مشروع ذا لاين والمشروعات ذات الصلة، وهو مبلغ كبير حتى بالمعايير السعودية. ويصف مشروع (ذا لاين) بأنه سيكون بمثابة «ثورة حضارية» لمدينة يسكنها مليون شخص «من جميع أنحاء العالم». أما عن الأسباب التي تدعو أي شخص إلى الرغبة في الانتقال إلى تلك المدينة، والأسباب الداعية إلى تصميم المدينة على شكل خيط رفيع مُنبسط، فهذا أمر متروك لخيال أي شخص للتفكير فيه والتخمين بشأنه.
دغدغة مشاعر
يرى الكاتب أن مشاهدة الفيديو الترويجي الذي قدَّمه ولي العهد لمدينة «ذا لاين» كفيلة بأن تجعلك تعيش غارقًا في حالة من الزهو السعودي الذي يتميز بالمزج بين الانتصار الديني والعظمة الملكية. ويبدأ الفيلم بمونتاج سريع الحركة لأعظم اختراقات ومنجزات علمية وتقنية في القرن العشرين، بما في ذلك صورة متناقضة للملك المؤسس للسعودية – كما لو كان شخصًا مُبتكرًا من طراز ستيف جوبز (مؤسس شركة أبل) وليس مجرد محارب في الصحراء يمتطي صهوة الجمال.
وفي هذا الفيديو، تظهر التواريخ باللون الأبيض المتوهج وخط عتيق بينما نرى صورًا لأول بث إذاعي تجاري (1920)، وأول شاشات تلفزيون ملونة (1953)، وأول عملية زرع كلى ناجحة (1954)، وأول رجل على سطح القمر (1969)، وأخيرًا تاريخ بزوغ شبكة الإنترنت. وبعد التنقل في حركات سريعة بين أمجاد «يوتيوب» (YouTube) والواقع الافتراضي، تصبح الشاشة فارغة وتظهر كلمات بيضاء على خلفية سوداء في شكل تساؤل: «ما التالي؟».
القائد الأوحد
ويبدأ مشهد جديد يقف فيه محمد بن سلمان على خشبة مسرح مرتديًا جلبابًا أبيضَ، ويلقي خطابًا موجزًا على غرار فيديوهات أحاديث التقنية والتعليم والتصميم المعروفة بالاختصار (TED)، بينما نرى خلفه نموذجًا طوبوغرافيًّا لما يشبه قشرة القمر السوداء. ويخترق الشكل الطبوغرافي تيار رقيق من نار خضراء متوهجة، حتى إنني للحظة تقريبًا توقَّعت ظهور وحش الجودزيلا ليخوض معركة مع الأمير.
ولمن لا يعرف الجودزيلا هو وحش ياباني اخترعته أفلام السينما، ووُلِد نتيجة الخوف والإثارة التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية بشأن قوة التكنولوجيا، ومن ثم سيكون من غير المناسب أن يظهر في المشهد، كما ظننت. وقد تبين لي أن هذا الشعاع الأخضر من المفترض أنه يمثل مشروع المدينة المتطورة «ذا لاين».
«نيوم».. طريقة جديدة للحياة على يد قاتل
وفي الوقت الذي يستحضر فيه محمد بن سلمان هذا العالم الجديد الشجاع – حيث لن تستغرق أي رحلة أكثر من 20 دقيقة! وانبعاثات الكربون صفر! – تشعر بأن جرأته في الحديث ليست أكثر من مجرد حركة ميتافيزيقية، خاصة وأنه على ما يبدو يعتقد أن الطبيعة نفسها تحت إِمْرته ورهن إشارته. وهذا الأمر لا ينبغي أن يكون مفاجئًا تمامًا، لأن محمد بن سلمان يروج لأفكار غريبة بالقدر نفسه منذ عام 2017، عندما قدم فكرة «نيوم» لأول مرة، وهي عبارة عن مشروع سعودي للتطور المستقبلي الأوسع لمدينة بنائها عابر للحدود، ويشكل مشروع «ذا لاين» جزءًا منها.
تُعد الغطرسة الكامنة في هذه المقترحات، التي يغذيها أجيال من الرجال المؤيدين دائمًا (بما في ذلك المستشارون الغربيون ذوو الرواتب الجيدة)، أمرًا مألوفًا لأي شخص قضى وقتًا في السعودية. ومع ذلك، يجدر بك أن تتوقع المزيد من الحذر من جانب محمد بن سلمان، على الأقل في الوقت الحالي.
فهذا هو الرجل المتَّهم بإصدار الأمر بالقتل الشنيع للصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي استُدرِج إلى القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية عام 2018، ثم خُنِق وقُطِّعت أوصاله بمنشار عظم على يد فريق أُرسِل خصيصًا لهذا الغرض من العاصمة السعودية الرياض. وكل هذا لأن خاشقجي تجرَّأ على كتابة أعمدة نقدية على نحو معتدل للنظام السعودي في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية. وصدمت تفاصيل مقتله الوحشي العالم بأسره، وجعلت محمد بن سلمان شخصًا منبوذًا. وبدوره ندد ابن سلمان بجريمة القتل ونفى أي دور له فيها.
يرى الكاتب أن صفة التواضع، في كل الأحوال، لا محل لها في جينات محمد بن سلمان. فالرجل يواصل مضايقة منتقديه وسجنهم كما لو كان مقتل خاشقجي لم يظهر للعلن ولم يسمع به أحد. وسمحت له جرأته بحصار المؤسسة الدينية في السعودية، ومكِّنته من وضع حدٍّ لترويج المملكة منذ مدة طويلة لما يوصف بالعقيدة الإسلامية الخطيرة. كما خفف ابن سلمان من القيود الصارمة على الحياة الثقافية في المملكة، مما جعله يتمتع بشعبية كبيرة، خاصة بين الشباب.
ويضيف الكاتب أن الفيلم الترويجي الغريب لمحمد بن سلمان ليس مجرد انعكاسًا لطموحاته الملكية. إذ إن شغفه بالتكنولوجيا له صدى لدى عديد من الشباب السعودي، ولا يمكنك أن تلومهم فعلًا في ذلك. فقد نشأت مدنهم الخاصة بين عشية وضحاها تقريبًا بعد أن كانت أماكن غامضة في الصحراء. وراقب أجدادهم في رهبة تسرب المادة السوداء اللزجة (النفط) من بين حبَّات الرمال، وتحوُّل بلادهم على الفور من واحدة من أفقر دول العالم إلى واحدة من أغنى دولِه. فما الذي يجعلهم لا يصدقون بإمكانية وجود سيارات أجرة طائرة وأقمار اصطناعية؟ لكن الحقيقة هي أنهم يتعرضون لخدعة كبرى، ستكشفها لهم الأيام، لكن بعد فوات الأوان.
اقرأ المزيد : هروبًا من شبح خاشقجي.. بن سلمان يحرك أبواقه لحذف “الآلة الحادة” من العلم السعودي
اضف تعليقا