“فتش عن الإمارات”.. هكذا ببساطة لا يمكن تلخيص سبب انتكاسة المشهد المصري الكلي وحسب، بل وأيضا انتكاسة المشهد الإعلامي أيضا، والذي جاء نتيجة مباشرة لحالة قمع عامة اجتاحت الشارع المصري مع تصدر الجيش للحياة السياسية صبيحة الثالث من يوليو 2013.
وإذا كان عهد مبارك، مرورا بفترة حكم المجلس العسكري الانتقالية، ثم عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، لم تشهد أي تضييق معلن وصريح على الإعلام، باستثناء ما تسرب حول ضغوط كانت تُمارس من المجلس العسكري على مجالس إدارة القنوات المؤيدة للثورة لتغيير أجندتها، فإن الأمر تغيّر كليا ليلة الانقلاب العسكري، ليصبح التضييق على الإعلام هو الحالة العامة والرئيسية في المشهد الإعلامي المصري.
لكن وبعيدا عن التضييق الإعلامي، فلا أحد ينسى كيف شوهت كثير من وسائل الإعلام ثورة يناير في بدايتها، وخلال اول ايامها، وكيف سلطت بعض القنوات التليفزيونية الكاميرات على أماكن فارغة رغم وجود ملايين المصريين بالشوارع، لتقنع باقي المصريين أنه ما من ثورة. هذه كانت صورة إعلام أنس الفقي وزير إعلام مبارك، وإعلام الحزب الوطني وجمال مبارك، وإعلام السعودية بكل المعهود عنه من تضليل وانتقائية.
وإذ كان تردي الإعلام وكذبه وتضليله وابتعاده عن المهنية وحرية التعبير، أحد أسباب ثورة يناير، فمِن هنا انطلقت فور إطاحة ثورة يناير بحسني مبارك، الدعوة لإنشاء قناة شعبية، كمبادرة لعدد كبير من الإعلاميين والصحفيين والكتاب، بدعم شعبي، تحت شعار #الشعب_يريد، كان من بين رموزها سليمان عامر، إبراهيم عيسى، محمد مراد، أحمد أبو هيبة.
وانطلاقا من هذه الروح تأسست “قناة التحرير” والتي أخذت اسمها من ميدان التحرير، وأطلق صناع والعاملين بالقناة تنويها لفتح القناة في 12 فبراير 2011، صبيحة رحيل محمد حسني مبارك عن رئاسة الجمهورية، منوهين عن قناتهم هي أول قناة لتخليد أرواح شهداء ثورة يناير.
خرج أول تنويه عن القناة على موقع اليوتيوب في 12فبراير 2011، صبيحة خلع محمد حسني مبارك عن رئاسة البلاد. وكما هو واضح بالتنويه، فإن القناة اعتمدت بالأساس على مجموعة من الشباب المشاركين في الثورة، والذين لم يجدوا فرصة للتعبير عن أنفسهم وقت حكم مبارك، كما كان الهدف من القناة فتح المجال العام وكسر الحواجز التي تحيط وتحاصر الإعلام.
لحظة التحول
استمرت القناة على نهجها في دعم الثورة عامين، هما 2011و2012، ثم بدأت القناة تفقد زخمها الثوري، وتواترت أخبار، سنورد لاحقا مراجعها، بضغوط إماراتية تمارس على القناة للتراجع عن موقفها الثوري، الأمر الذي أسفر عن انسحاب عدد من الإعلاميين والصحفيين من القناة تباعا، بدأت بدينا عبد الرحمن، ثم بلال فضل، وانتهت بمحمود سعد.
وبالفعل تم تغيير اسم القناة إلى ” تن – TEN” أي عشرة باللغة الإنجليزية. وتحولت القناة تدريجيا من قناة مؤيدة للثورة، تفتح المجال للآراء على اختلافها، إلى إلى شيء مختلف، بوق إعلامي يهدف إلى تشويه ثورة شعبية، واتهام الكثير من رموزها ومن شارك فيها بالخيانة والعمالة لجهات أجنبية. وبعد أن كانت قناة التحرير تستضيف كل أصحاب الرأي، سواء يساريين أو ليبراليين أو إسلاميين أو حتى معارضين للثورة، كي يعبروا عن آرائهم، لم تعد تعكس إلا رأي واحد، وتوجه واحد، ألا وهو صوت السلطات الحاكمة، وبشكل خالٍ من المهنية.
كيف سيطرت الإمارات على القناة؟
لنفهم هذا التحول، لا بد أن نقف أولا عن ملاك ومؤسسي القناة الأوائل، وكيف أطاحت بهم القبضة الأمنية إلى أن أسلمتهم إلى المستثمر الجاهز على الدوام.. أبو ظبي.
البداية عن سليمان عامر، رجل أعمال مصري، ومؤسس قرية السليمانية، وفي فبراير 2011، ساهم عامر في تأسيس قناة التحرير باستحواذ بلغ 72% من أسهم القناة. لكن بعد عدة أشهر فقط من انطلاق القناة، وفي فترة حكم المجلس العسكري، في يونيو 2011، صدر حكم بالتحفظ على أموال سليمان عامر، وبعدها باع عامر حصته من قناة التحرير إلى مالك مجهول، ثم صدر قرار في عام 2015 بمنعه من السفر. وأخيرا، تنازل سليمان عامر عن 350فدانا من أرض السليمانية وتصالح مع الدولة.
قناة الثورة.. سابقا
انطلقت القناة في البداية بباقة من البرامج المنوعة، والتي تشترك جميعها في دعمها للثورة، حتى لو اختلفت في توجهات تياراتها، لكن كان القاسم المشترك بينها جميعا: نحن مع الثورة.
وكانت أبرز برامج القناة، برنامج في الميدان: تناوب على تقديمه كل من محمود سعد/ بلال فضل/ إبراهيم عيسى، وبرنامج قلم رصاص تقديم حمدي قنديل، وبرنامج توك شوز تقديم دعاء سلطان، وبرنامج ليطمئن قلبي: تقديم أحمد أبو هيبة، وجبهة التهييس الشعبية: تقديم نوارة نجم.
قناة تن.. الإماراتية
مرت قناة التحرير بعدة مراحل في أثناء تحولها من قناة تسعى للتعبير عن الثورة إلى قناة تدعم الثورة المضادة وتشوه الثورة، ومن بين هذه المراحل:
المرحلة الأولى مرحلة الحماس: والتي استمرت منذ تدشين الثورة وحتى أكتوبر 2011حيث بدأت تظهر المشاكل المادية في القناة، واضطر إبراهيم عيسى للتنازل عن حصته في القناة وبيعها لاثنين من رجال الأعمال، ثم قام أحدهما ببيع نصيبه لسليمان عامر والذي كان يواجه مشاكل مع الدولة حول أرض قرية السليمانية.
المرحلة الثانية مرحلة الانسحابات: فبعد بيع أسهم القناة لنبيل كامل وسعيد توفيق، ثم رد هذه الأسهم لسليمان عامر، بدأ الإعلاميون في الانسحاب الواحد تلو الآخر، حيث انسحب محمود سعد من قناة التحرير، تلته ثلاثة إعلاميات انسحبن بالترتيب: نوارة نجم، دعاء سلطان، دينا عبد الرحمن، ثم انسحب كل من حمدي قنديل، وبلال فضل، وأخيرا انسحب إبراهيم عيسى.
ولكل واحد منهم قصة، إلا أن العنوان الرئيسي لكل هذه القصص هو تغيير السياسة التحريرية للقناة تدريجيا، والاتجاه نحو فرض المزيد من المحظورات، مع التضييق المالي على الإعلاميين غير المرغوب فيهم، الأمر الذي أدى إلى تفريغ القناة من كافة رموزها الثورية والمهنية.
المرحلة الثالثة مرحلة التراجع: حيث تحولت إلى قناة مضادة للثورة باستجلاب مقدمي برامج من مؤيدي المجلس العسكري، والذين لم يبدو عداء سافرا للثورة في البداية، ولكنهم التزموا بانخفاض سقف حرية الرأي والتعبير مثل محمد الغيطي، ورانيا بدوي.
المرحلة الرابعة مرحلة التحول: وبدأت بتعيين أحمد موسى مذيعا فيها، كما استضافت القناة برنامجا للراقصة فيفي عبده.
المرحلة الأخيرة تغيير الاسم: حيث تحولت قناة التحرير إلى قناة تن وتم ذلك في العام 2015 .
الإمارات تتصدر
قناة “Ten” بهويتها الإماراتية الجديدة، تأسست في عام 2015، وذلك بعلامة تجارية لقناة التحرير حيث انتقلت ملكيتها إلى رجل أعمال إماراتي (لا يُذكر اسمه أبدا)، و يرأسها الإعلامي عمرو عبد الحميد، و نشأت الديهي، نائبًا لرئيس المحطة. وحتى اليوم لا تتيح القناة شفافية بإعلان اسم او أسماء ملاكها، ويتم الاكتفاء بإعلان جنسيته هؤلاء الملاك، الامارات! وهو ما يطرح تساؤل عن نتيجة أو اثر ملكية الامارات المعادية لثورة يناير لقناة كانت تسعى للتعبير عن ثورة يناير.
ورغم محاولات بحث جاهدة، لا يمكن الجزم باسم المالك الحقيقي للقناة، رغم ان بعض الصحفيين المخضرمين يقولون أن الملاك قد يكونوا :
منصور بن زايد آل نهيان المولود في 1970 وهو نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو أحد افراد الاسرة الحاكمة، تلقّى تعليمه العام في مدارس أبوظبي، ونال درجة البكالوريوس في العلاقات الدولية من الولايات المتحدة الأمريكية 1993.
محمد دحلان مواليد1961 بمخيم خان يونس، خان يونس، قطاع غزة. هو سياسي فلسطيني، وقائد الأمن الوقائي السابق في غزة وأحد أبرز قيادي حركة فتح. استقال من منصبه كرئيس لجنة الداخلية والأمن في المجلس التشريعي الفلسطيني ومستشار الأمن القومي بعد سيطرة حركة حماس على القطاع.
ودحلان بالإضافة إلى مناصبه والجدل الذي يدور حلوه، فهو رجل أعمال من العيار الثقيل، ولديه استثمارات في كثير من الدول العربية، وهو مقرب بشدة من الأسرة الحاكمة في الامارات التي يقيم بها أيضا، حتى أن البعض أيضا يدعي أنه مستشار للأمير. لكن المؤكد الثاني هو أن دحلان يتم استضافته بشكل كبير على قناة تن.
لم تعلن القناة رسميا اسماء ملاكها وكذلك لم تثبت ملكية أي من بن زايد أو دحلان للقناة، إلا أن القناة بنفسها تعترف بإن مالكها إماراتي، وترفض الإفصاح عن اسمه وتحيط شخصه الحقيقي بالغموض والسرية، الأمر الذي يثير تساؤلات واندهاش.
الأموال الإماراتية حاضرة
واحدة من أهم الأحداث التي مرت بها قناة تن، وقعت في ديسمبر 2019، حيث أعلنت عن وقف بثها في آخر الشهر لأسباب تمويلية وإعلانية بحتة، أزمة مالية. وكتب نشأت الديهي في بيان القناة بإن “الجماهير” قد ناشدت القناة ألا تتوقف، والحقيقة أننا لم نجد أثرا لتلك الجماهير أثناء البحث، سوى المساندة غير المشروطة التي تلقاها الديهي من أحمد موسى، حيث ظهر الأخير في برنامجه وقد اغرورقت عيناه بالدموع مناشدا الديهي وداعيا إياه لبرنامجه بقوله: برنامجي برنامجك.
وربما وقع الأمر في قلوب الكثير ممن تشهر بهم القناة موقع الفرح، إلا أن تدخلا عاجلا لإنقاذ القناة واستمرارها في سياستها التحريرية قد حدث. وذلك في غضون أيام قلائل عقب إعلان القناة وقف بثها.
القناة الآن
بالنظر إلى البرامج التي تقدم الآن على القناة، يمكننا بسهولة أن نفهم كيفية الانتقال من كونها قناة الثورة إلى قناة تدعم الانقلاب العسكري بكل سعار وصراحة، إذ تقدم القناة الآن برامج مثل صباح الورد : لـ مها بهنسي -نور الصواف – سمر نعيم، وبرنامج بالورقة والقلم، لنشأت الديهي، والمساء مع قصواء، وبرنامج توك شو: قصواء الخلالي، والعرب في أسبوع : عبد الرحمن كمال – نوران حسان – سوزان شرارة – محمد الرميحي، ومصر في أسبوع: عبد الرحمن كمال – نوران حسان – سوزان شرارة – محمد الرميحي.
وبشكل عام فإن التغيير الذي طرأ على قناة “التحرير” التي حاولت التعبير عن ثورة طالبت بالكرامة والعدالة الاجتماعية وتنوع الآراء، إلى “قناة تن” التي حاولت التعبير عن العداء للثورة والتشهير بالمختلفين والمعارضين واقتصارها على صوت السلطة وملاكها ، يعكس حال الثورة المصرية والتحولات التي شهدتها.
اقرأ المزيد : الانتخابات الفلسطينية … بين الضغوط الداخلية والتدخلات الإقليمية
اضف تعليقا