المال يشتري كل شيء… مقولة شهيرة جداً لطالما انقسمت الآراء حول صحتها، فالبعض يؤكد أن هناك أشياء لا يمكن للمال أن يحققها، كالسعادة، والصحة، والحب على سبيل المثال، كما لا يمكن أن يشتري الضمير أو يغير الحق، وآخرون يرون أن المال الوسيلة المضمون لتحقيق كل شيء، فهو على الأقل يساعد في الاقتراب من تحقيقها. من المؤسف أن هذه المقولة بدأت في إيجاد أرضية قوية على أرض الواقع، فحتى لو كان من الصعب على المال أن يغير الحق، فبكل بساطة أصبح من الممكن أن يخرسه، أن يكتمه، أن يكمم أفواه الداعين له والمدافعين عنه.
أصبح المال اليوم الأداة الأبرز التي يستخدمها الطغاة حول العالم للتغطية على جرائمهم، لتحسين صورتهم، لتبييض سمعتهم، أو لمضاعفة شعبيتهم.
محمد بن سلمان يُعد أبرز الديكتاتوريين العرب الذين يعتمدون ذلك المسار بصورة كبيرة لشراء مكانة عالمية وحجز مقعداً بين كبار قادة الدول، على سبيل المثال، هو الذي أغدق هدايا شخصية بالمليارات على ترامب وحاشيته في مقابل الحفاظ على دعم الإدارة الأمريكية له وحمايته من المساءلة على جرائمه وانتهاكاته التي لم يتوقف عن ارتكابها منذ ظهوره في المشهد السياسي السعودي بعد تولي والده الملك سلمان العرش في عام 2015.
المصالح الاقتصادية كان يتم إعلاؤها دائماً على حقوق الإنسان والقيم والمبادئ، فرغم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تصل إلى جرائم حرب في اليمن وليبيا، استمرت الدول الأوروبية والولايات المتحدة في تسليح المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة دون قيود، كل هذا بسبب المكاسب الاقتصادية والمليارات التي يتم حصدها من وراء هذه الصفقات.
الاستثمار في مجال العلاقات العامة والإعلام لتبييض السمعة والتغطية على الانتهاكات كان الأوسع من قبل الديكتاتوريات الخليجية، كالسعودية والإمارات، إذ تم الكشف بحسب تقارير صحفية عن استحواذ السعودية على حصص ليست بالقليلة في بعض المنافذ الإعلامية والإخبارية البريطانية لتلميع صورتها في الغرب، والترويج للنظام الحالي، وأحياناً لمهاجمة قطر والتحريض ضدها، بتعاون مشترك مع الإمارات بطبيعة الحال.
الإندبندنت -غير المستقلة
من المفارقات الساخرة، أن صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، والتي تعني ترجمتها في العربية كلمة “المستقلة”، تحولت إلى صحيفة غير مستقلة بعد بيع نسبة ليست قليلة من أسهمها لرجل أعمال سعودي على علاقة وثيقة بالحكومة السعودية، إذ قام الملياردير السعودي سلطان أبو الجدايل في 2017 بشراء 30% من أسهم ديجيتال نيوز أند ميديا؛ وهي المؤسسة التي تصدر صحيفة “الإندبندنت” البريطانية.
وبحسب خبراء في سوق المال، فإن قيمة الصحيفة البريطانية تقدر بنحو 100 مليون جنيه إسترليني؛ ما يعني أن “أبو الجدايل” دفع حوالي 30 مليون جنيه ثمناً لحصته، كما قام في صفقة أخرى بالاستحوذ على حصة تتراوح ما بين 25% و50% من موقع الإندبندنت الإلكتروني.
صحيفة الإندبندنت تُعد من أبرز الصحف البريطانية، تأسست عام 1986، وفي عام 2010 تعرضت لأزمة مالية عنيفة كادت أن تُغلق أبوابها على إثرها، لكن الملياردير الروسي الكسندر ليبيديف قام بشرائها، وبالطبع استغلها لنشر تقارير وأخبار لتلميع بوتين والترويج لسياساته، وفي 2017 تم بيع نسبة من أسهمها لرجل أعمال سعودي، على صلة بالنظام الحاكم.
وأبو الجدايل هو مصرفي سعودي، يعمل في البنك الأهلي كابيتال، وهو الذراع المصرفية الاستثمارية للبنك الأهلي التجاري، ورغم كونه رجل أعمال بارز، فلم يكن له أي استثمارات، سوى في هذه الصحف، ما يثير شكوك حول الجهة التي يعمل لحسابها.
روسيا والدور المشبوه
الحصص التي استحوذ عليها أبو الجدايل في الاندبندنت وغيرها من المنافذ الإعلامية قام بشرائها من رجل الأعمال الروسي ” إيفنغي ليبيديف”، صاحب شركة ” ليبيديف” القابضة المالكة لصحيفة “إيفيننغ ستاندرد” التي اشترى أبو الجدايل 30٪ من أسهمها أيضاً.
ومن الجدير بالذكر، أن صفقة الاستحواذ على “إيفنينغ ستاندرد” تمت بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في خريف 2018 على يد فرقة من العملاء التابعين لولي العهد السعودي، وقد تمت هذه الخطوة في إطار محاولة في دعم النظام السعودي في التستر على جرائمه وتبييض سجله السيء في مجال حقوق الإنسان، وخصوصاً ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير والصحافة، والتضييق على المعارضين وأصحاب الرأي.
في تحقيق سابق لها في 2019، قالت صحيفة “الغارديان” البريطانية إن ليبيديف يتمتع بعلاقات وثيقة مع المملكة العربية السعودية، حيث ظهر على إنستغرام مع الميليشيات المدعومة من السعودية في اليمن، في إشارة واضحة إلى الموافقة على الجرائم التي ترتكب في اليمن باسم القوات السعودية.
وبحسب تحقيقات لصحيفتي “غارديان” و “فاينانشيال تايمز” فإن أبو الجدايل استخدم شركات وسيطة في جزر كايمان غرب البحر الكاريبي هما تدعى Scalable Inc و International Media Compan، لشراء أسهم في الصحيفتين المذكورتين في الدعوى القضائية، من الروسي إيفنغي ليبيديف- ابن أحد رجال الأعمال [الكسندر ليبيديف] المقربين من الكرملين، وهي عملية ساعدت في إخفاء المستثمر الحقيقي.
الشركتان اللتان استخدمهما أبو الجدايل، مملوكتان بنسبة 50٪ لأبو الجدايل و 50٪ لشركة وندروس إنفستمنتس، وهي ذاتها مملوكة للبنك الأهلي التجاري السعودي الذي تسيطر عليه الدولة.
موقف الحكومة البريطانية
عمليات الاستحواذ تلك أثارت غضب الحكومة البريطانية، التي وصفتها بـ “السرية وغير التقليدية”، واعتبرت أن هذا تهديداً واضحاً لاستقلالية وحياد الإعلام البريطاني، ما دفعها لرفع دعوى قضائية ضد هذه العمليات. وقال الممثل القانوني للحكومة البريطانية في إحدى الجلسات أمام محكمة مختصة لحماية المنافسة “إن هناك انزعاجا من تمكن دولة أجنبية من الحصول على حصص كبيرة من أسهم وسائل إعلام بريطانية كصحيفتي “ذي اندبندنت” و “إيفننغ ستاندرد””
وفي سياق ما تنظره المحكمة، فقد حذر ديفيد سكانيل، الممثل القانوني للحكومة، أثناء نظر القضية من قيام الحكومة السعودية باستخدام نفوذًا تحريريًا على المنافذ الإخبارية، مشيراً أن هذا سيؤثر على حرية التعبير، كما اتهم ليبيديف بالخروج عن مساره لتجنب الإجابة على أسئلة حول الصفقات.
وبالرغم من هذا الموقف القانوني الرسمي للحكومة، فإن بوريس جونسون أثار الكثير من الشبهات بسبب حضوره الحفلات التي أقيمت في قلعة ليبيديف الإيطالية في 2018.
اختراق المال للشركات الدولية
لم يتوقف الأمر عند اختراق الشركات الإعلامية البريطانية، بينما انتهجت السعودية ذلك المسلك مع الشركات العالمية الأخرى، فقد كشف تحقيق استقصائي أجرته وكالة “إيرين” الأوروبية قبل ثلاث أعوام، أن السعودية تعاقدت مع عدد كبير من جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة، الأمريكية والبريطانية، لتلميع السمعة السيئة التي لصقت بها بسبب انتهاكاتها في حرب اليمن. وتلخص دور هذه الشركات في الترويج لإعلان السعودية عن تقديم نحو 3.5 مليار دولار من المساعدات العينية والنقدية لليمن، وإرسال صحفيين لتصوير تسلم اليمنيين هذه المساعدات السعودية.
كما تم الحصول على وثائق كشف أن إحدى الشركات المعينة من قبل الرياض، وهي شركة “كورفيس إم إس إل غروب” تواصلت 60 مرة خلال ستة أشهر مع جماعات ضغط ووسائل إعلامية أمريكية؛ لتقديم معلومات وتحليلات أعدتها عن دور السعودية في اليمن، كما تدير هذه الشركة – بتكليف من السفارة السعودية في واشنطن- موقعاً إلكترونياً هدفه الترويج للأجندة السعودية. وفي أحد أعدادها، قالت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إن السعودية زادت عدد جماعات الضغط التي تعمل لحسابها من 25 إلى 145 جماعة في الفترة من 2016 وحتى 2018.
صحيفة أخرى قامت بالعمل لحساب بن سلمان، وهي صحيفة “ناشونال إنكويرر” التي قامت بنشر تفاصيل محادثات خاصة لأحد خصوم بن سلمان على الساحة الدولية، وتأتي القصة حينما توسعت الانتقادات الدولية ضد السعودية في أعقاب مقتل خاشقجي، وتدهورت سمعتها بالشكل الذي بات يلاحقها في كافة المحافل الدولية، وفي إطار ذلك، فقد لجأ النظام السعودي إلى الابتزاز كوسيلة لإسكات تلك الانتقادات، وأبرز هذه الوقائع هو ما حدث مع “جيف بيزوس” مؤسس “أمازون” ومالك صحيفة واشنطن بوست التي كان يعمل بها خاشقجي، والتي قادت حملة انتقادات شرسة ضد السعودية بعد تورط كبار المسؤولين السعوديين في جريمة اغتيال خاشقجي.
وقد نشرت الصحيفة المذكورة “ناشونال إنكويرر” معلومات حول علاقة خارج إطار الزواج تربط “بيزوس” بامرأة أخرى، وبعد شهر من ذلك كشف “بيزوس” أنه كان هدفاً للابتزاز والتشهير من قِبل تلك الصحيفة وشركتها الأم “أميريكان ميديا” متهماً السعودية بالتدبير لذلك الابتزاز. وقد تمت عملية الابتزاز تلك بعد قيام محمد بن سلمان باختراق هاتف “بيزوس” الشخصي والحصول على صور ومعلومات شخصية تم تسريبها للصحف العالمية التي يمولها.
اقرأ أيضًا: لا مزيد من التدليل.. أميركا للسعودية: المعاملة الخاصة للمملكة بمنظمة التجارة انتهت
اضف تعليقا