قبل عدة أشهر تم إصدار فيلم وثائقي بعنوان “المنشق” يحكي تفاصيل جريمة مقتل خاشقجي المروعة، ويكشف جوانب كثيرة من الاضطهاد الذي يتعرض له المنشقون والمعارضون السعوديون في الخارج بسبب الملاحقات الأمنية التي لا تتوقف.
مع ذلك، لم يعرض الفيلم كل شيء، هناك على سبيل المثال مقطعاً إخبارياً -مخيباً للآمال- لولي العهد السعودي محمد بن سلمان وهو في قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ويتبادل الضحكات مع بوتين بعد أسابيع من مقتل الكاتب والمعارض السعودي جمال خاشقجي داخل في القنصلية السعودية في اسطنبول، حيث تم استدراجه -في منطقة محمية دبلوماسياً- للحصول على وثائق تتعلق بزفافه المخطط له من الصحفية التركية خديجة جنكيز.
اغتيال المملكة العربية السعودية لخاشقجي هو مثال على المسرح السياسي الجديد المروع: دولة قومية ترسل “رسالة” مافيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرئيسية للمعارضين في الخارج الذين يعتقدون أنهم يستطيعون انتقاد الوطن، ورغم أن السعودية نفت ذلك في البداية قبل أن تعترف بمقتله على يد عناصر “مارقة”، وهو التبرير الذي قبله ترامب ودعمه ليفلت بن سلمان من العقاب في عهده، بل وفي عهد خليفته “جو بايدن” الذي رفض معاقبة بن سلمان أيضاً.
الزعيم العالمي الوحيد الذي كان غاضباً للغاية هو التركي رجب طيب أردوغان، مقتل خاشقجي يعتبر تعدي على سيادة الدولة التركية، ولعل هذا ما يفسر قيام أجهزته الأمنية بالكشف عن تسجيلات الكاميرا، لتكشف هذه التسجيلات والوثائق بالتفصيل دقيقة بدقيقة كيف تم التغلب على خاشقجي وقتله.
ربما لا يحمل الفيلم الوثائقي للمخرج “برايان فوغل” تفاصيل جديدة ومفاجئة عن مقتل خاشقجي، لكنه فيلم شرس وقوي للغاية، تم عرض محتوياته بطريقة مباشرة وصريحة، وبطريقة ما، لعب أردوغان دور مهماً في إنتاج هذا الفيلم، حيث أدى غضبه ونشر الوثائق إلى تسهيل القيام بجمع مادة الفيلم، التي كان من الممكن أن تستغرق سنوات من الصحفيين الاستقصائيين للحصول عليها.
لقد قتلت المملكة خاشقجي مع سبق الإصرار، حيث تم إرسال خبيراً أمنياً “شريراً مع طبيب شرعي متمرس وصاحب خبرة في تقطيع الأوصال إلى إسطنبول على متن طائرة خاصة ضمن فريق مكون من 15 فرداً، مجهزين بكافة الأدوات المطلوبة لتنفيذ الجريمة.
لقد اختفى رفات خاشقجي بعد العملية، وحتى الآن لم يتم الإفصاح عن مكانه، لكن يُقال إن أجزاء جسده تم حرقها في الطابق السفلي، خاصة وأن القنصلية طلبت حوالي 30 كيلوجرامًا (70 رطلاً) من اللحم “النيء” من مطعم محلي لطهيها حتى تغطي رائحة الشواء على رائحة الجثة الفظيعة.
الغريب في الأمر، أن خاشقجي لطالما كان يتمتع بعلاقة طيبة مع النظام السعودي، لقد كان صحفياً موثوقاً ومخلصاً للمملكة، صاحب آراء نيرة ومعارضة معتدلة مقبولة. هذه الصفات جعلت منه متحدثاً رسمياً “محدثاً باسم المملكة في القنوات الأجنبية، لكن بدأ الأمور في التغير شيئاً فشيئاً بعد ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة في 2011، حيث أخذ خاشقجي موقفاً -غير معارضاً لها، كما بدأت علاقة خاشقجي بالمنشق السعودي الشاب ونجم اليوتيوب عمر عبد العزيز في التعمق، ليبدأ النظام السعودي في أخذ موقفاً مغايراً من خاشقجي.
مثل خاشقجي، كان عبد العزيز يتمتع بحضور هائل على وسائل التواصل الاجتماعي – وهو شيء آخر أثار حنق السلطات السعودية، التي وظفت جيوشًا من المتصيدين المحاربين، أو ما يعرف بالذباب الإليكتروني، للإساءة إلى المعارضين والهجوم عليهم.
انتهى الأمر بخاشقجي في المنفى في إسطنبول بعد التعرض لمضايقات كثيرة، وظل بين تركيا والولايات المتحدة حيث كان بدأ في كتابة مقالات قوية لصحيفة واشنطن بوست، إلى جانب نشاطه المتزايد مع عمر عبد العزيز في التصدي لجيوش الذباب الإليكتروني، ما أغضب بن سلمان كثيراً، وكان له عواقب “مميتة”.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن، كيف وثق خاشقجي في السلطات السعودية، ليس فقط بدخوله إلى مبنى القنصلية، لكن بتكرار هذه الزيارة، إذ سبقها زيارة أولية قبل ذلك ببضعة أسابيع، ما منح السعوديون وقتاً كافياً للاستعداد لهجومهم!
في الفيلم الوثائقي، أخبر عبد العزيز فوغل أن خاشقجي حذره هو شخصياً من فعل الشيء نفسه بعدما تلقى دعوة من المسؤولين السعوديين لزيارة السفارة السعودية في مونتريال لتجديد جواز سفره، فكيف وقع خاشقجي في هذا الفخ؟ لماذا لم يلتزم بنصيحته لغيره؟
هل كان مفرط الثقة في النظام؟ هل كان يظن أن مكانته الدولية ستحميه من أي غدر؟ كيف تغاضى عما حدث له في المملكة، لقد أُجبر على تطليق زوجته الأولى والتخلي إلى الأبد عن رؤية أبنائه عندما ذهب إلى منفاه في تركيا. في الواقع، ما تعرض له خاشقجي هو تجسيد حي للعنف الذي ترعاه الدولة بواسطة مجموعة من المتغطرسين الذين حسبوا أنهم سيفلتون من العقاب، والمؤسف، أنهم أفلتوا حقاً.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اقرأ أيضًا: دبلوماسية دفاتر الشيكات: كيف تحولت صحف بريطانية إلى أبواق دفاع عن بن سلمان؟
اضف تعليقا