يبدو أن دعوة وزارة الدفاع البريطانية لحلفائها للاستعداد لمواجهة مرتزقة شركة فاغنر الروسية في ليبيا تعني أننا أمام مرحلة جديدة في المشهد الليبي، كما وافقت الولايات المتحدة على تزويد حاملة طائرات إيطالية بمقاتلات “إف35″، وهو ما يعكس أن الدول الغربي قاربت على نفاذ صبرها إزاء تمدد النفوذ الروسي في الجناح الجنوبي لحلف الناتو.
وتأتي ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها لإخراج “فاغنر” من ليبيا بالتزامن مع حشود روسية غير مسبوقة منذ 2014، على الحدود مع أوكرانيا.
وردت واشنطن بإرسال سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود بالقرب من خطوط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا، في محاولة من كل طرف لأن يلعب بأوراق جديدة للضغط على الطرف الآخر في جبهة أخرى بعيدة.
فيما قامت شركة فاغنر الروسية بـ48 طلعة جوية نهاية الأسبوع المنصرم، انطلاقا من قاعدتي تمنهنت (جنوب غرب) وسرت (شمال) الجويتين، وهو ما اعتبرته قوات الجيش الليبي بأنه انتهاك لاتفاق وقف إطلاق النار.
رقعة شطرنج..
وعليه، الولايات المتحدة وحلفاؤها يضغطون على روسيا من جناحها الغربي في أوكرانيا، بينما تضغط روسيا على حلف الناتو من جناحه الجنوبي انطلاقا من ليبيا.
المشهد يبدو كرقعة شطرنج، لكن ميدانها يمتد من البحر الأسود إلى البحر الأبيض، وأي تحرك لطرف في جبهة قد يرد الطرف الآخر في الجبهة الأخرى.
من غير المتوقع أننا سنشهد حربا شاملة في شرق أوكرانيا أو في ليبيا، نظرا لطبيعة التوازنات بين أكبر قوتين نوويتين في العالم، لكن إذ اندلعت حرب في المنطقتين قد لا تكون بالصورة المتعارف عليها في الحروب التقليدية.
حيث إن موسكو تفرض على الغرب حرب هجينة وغير تقليدية عبر جيشها الخاص “فاغنر”، ومن خلال حلفائها المحليين سواء في شرق أوكرانيا أو مليشيات خليفة حفتر في شرق ليبيا.
وهذا تحديدًا ما دفع وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، للقول إن “هذه الجماعات الغامضة “فاغنر” المدعومة الآن من قبل جيوش جيدة التمويل ومدربة تدريبا عاليا، تشكل مهمة معقدة لجيوش الدول الغربية”.
ويذهب والاس بعيدًا عندما يدعو إلى الاستعداد لمواجهة فاغنر أينما كانت، سواء في أوكرانيا أو سوريا أو ليبيا أو جمهورية إفريقيا الوسطى، قائلًا “ستحتاج المملكة المتحدة وحلفاء آخرون إلى الاستعداد لتحدي مجموعات المرتزقة لمواجهة تأثيراتهم الخبيثة، ويجب منازعتها في الأماكن التي تعمل بها”.
لكن خبراء أمريكيين يستبعدون تورط واشنطن مجددا في حرب بليبيا، لتفادي السيناريو الأفغاني والعراقي، وحتى الليبي ذاته في 2011.
لكن في المقابل، يتوقع المراقبون تفعيل الولايات المتحدة أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لإخراج مرتزقة فاغنر من ليبيا، وحث حلفائها -الإمارات ومصر- بعدم تقديم أي دعم لوجستي للروس في المنطقة.
التصور الأمريكي مقابل الفعل الروسي..
تبني أمريكا تصورها على تشكيل حكومة وحدة تطلب من المرتزقة مغادرة البلاد فيخرجون.
لكن النداء الذي وجهه عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، لم يلق استجابة من فاغنر، التي تواصل تحصين مواقعها، وحفر خندق يمتد من محافظة الجفرة جنوبا إلى محافظة سرت شمالا في المنطقة الوسطى للبلاد.
وهذه التحصينات وتعزيز مرتزقة فاغنر بأسلحة روسية ثقيلة من قبيل مقاتلات ميغ 29 وسوخوي 24، ودبابات ومدرعات وصواريخ مضادة للطيران، يؤكد أن روسيا لا تنوي المغادرة قريبا من ليبيا.
الوضع المتأزم في شرق أوكرانيا يزيد من الأهمية الاستراتيجية لليبيا بالنسبة لموسكو في مواجهة محاولة حلف الناتو تطويقها من الغرب، لذلك من المستبعد أن تتخلى روسيا بسهولة عن مواقعها في سرت والجفرة.
حفتر لا يملك السيطرة على فاغنر..
من ناحية أخرى، يبدو حفتر أمام فاغنر، كطفل ربى أفعى صغيرة فلما كبرت تحولت إلى تنين وابتلعته.
مطالبة لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، التي تضم 5 ممثلين عن حفتر، برحيل المرتزقة، لم يلق أي صدى لدى فاغنر، التي تضم ألفي عنصر في ليبيا، بالإضافة إلى مرتزقة سوريين يخضعون مباشرة لأوامر قادتها، ناهيك عن المرتزقة الأفارقة الذين أصبحوا موالين لها.
ويكشف هذا الواقع فقدان حفتر السيطرة على مرتزقة فاغنر وحتى على المرتزقة الأفارقة والسوريين، ويعكس أيضا افتقاده للقدرات المالية التي تمكنه من دفع ملايين الدولارات للمرتزقة الذين يخضعون لمن يدفع أكثر.
وعجز حفتر عن دفع ملايين الدولار للمرتزقة يجعله مدينا لهم، بل وتحت رحمتهم، خاصة بعد هزيمته في طرابلس (2019-2020) التي كان أحد أهدافه السيطرة على موارد البنك المركزي وتسديد ديونه.
وهذه الحقيقة عبر عنها أحد الموالين لحفتر، ويدعى عزالدين عقيل، عندما قال إن مليشيات حفتر “لا يمكنها إخراج فاغنر بسهولة، فنحن لا نعرف كم يترتب لهذه الشركة من أموال، وهل الجيش (مليشيات حفتر) قادر على دفع هذه الأموال”.
ويؤكد عقيل أن “فاغنر إذا خرجت من ليبيا دون أن تحصل على هذه الأموال فلن تراها أبدا، لذلك فهي لن تخرج قبل أن تحصل عليها”.
بل وتوقع أن تجري فاغنر انقلابا ضد حفتر إذا تعرضت لضغوط للخروج من ليبيا.
وهذا ما يجعل حفتر أسيرا لدى فاغنر، ولا يملك سلطة إخراجها من البلاد حتى وإن أراد، وقد يضطر إلى مقايضتها بالنفط مقابل مستحقاتها غير القانونية.
حيث أعلنت قوات “بركان الغضب” التي تصدت لعدوان حفتر على طرابلس، السبت، رصدها سابقا “أعمال حفر لمرتزقة فاغنر يُعتقد انها لمد انبوب داخل الخندق لنقل النفط من الجنوب الى الشمال ومنها لشحنه بحراً”.
وفي يونيو/حزيران الماضي، اعتبر وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا سيطرة مرتزقة فاغنر على حقل الشرارة النفطي (جنوب غرب) برفقة مجموعة من الجنجويد السودانية سابقة خطيرة لسيطرة مرتزقة أجانب على النفط الليبي.
وحذر باشاغا حينها من أن تحكم فاغنر في ثروات البلاد “يُعد تهديدا خطيرا للأمن القومي الليبي، وينال من مصالح كافة الشركات الأمريكية والأوروبية العاملة بالقطاع، التي ستكون رهينة لتغول روسي غير مسبوق”.
هل الحل العسكري مستبعد إلى الأبد؟
فشل الضغوط الأمريكية والأوروبية دبلوماسيا واقتصاديا في إخراج فاغنر من ليبيا، قد يدفع حلف “الناتو” إلى تجريب خيارات عسكرية معقدة وغير مباشرة.
أولها توجيه ضربات جوية وصاروخية ضد أهداف لفاغنر سواء في قاعدتي الجفرة (650 كلم جنوب شرق طرابلس) والقرضابية الجويتين، وتحييد طائراتها المقاتلة ومنظوماتها الصاروخية المضادة للطيران.
وسبق أن أعلنت الولايات المتحدة، في 23 سبتمبر/أيلول 2020، استهدافها شبكة مرتبطة بفاغنر، في نفس اليوم الذي سقطت فيه مروحية حربية روسية جنوب بلدة سوكنة بالجفرة (وسط)، ومقتل 4 عناصر من فاغنر.
وتأتي موافقة واشنطن على تزويد حاملة الطائرات الإيطالية (Nave Cavour) بمقاتلات “إف-35” من الجيل الخامس، في إطار تقوية الجناح الجنوبي للناتو في مواجهة تعزيز موسكو لتواجدها العسكري في ليبيا.
السيناريو الثاني أن تمارس واشنطن ضغوطا صارمة ضد حفتر، وحلفائها العرب الداعمين له (مصر والإمارات) لعزل فاغنر في ليبيا، وحرمانها من أي دعم لوجيستي.
ويكون ذلك مقدمة لهجوم تقوم به قوات الغرب الليبي تحت مظلة حكومة الوحدة الوطنية، وبدعم عسكري لحلف الناتو، سواء عبر القصف الجوي أو من خلال قوات خاصة محدودة العدد وغير معلنة.
وسبق للولايات المتحدة أن دعمت خيارا عسكريا بنفس الخطوات، عندما وفرت غطاء جويا لهجوم نفذته قوات حكومة الوفاق الوطني ضد تنظيم داعش الإرهابي في 2016، ومشاركة وحدات للقوات الخاصة الأمريكية والبريطانية بالإضافة إلى مستشفى ميداني إيطالي وفرته روما ضم 200 عنصر بين جندي وطبيب.
وسيناريو مهاجمة قوات حكومة الوحدة لفاغنر، لمح إليه وزير الدفاع الإيطالي لورينزو غويريني، عندما تحدث، أمام برلمان بلاده عن “هشاشة” وقف إطلاق النار في ليبيا.
وقال “تجري في ليبيا عملية سياسية حساسة، تطورت على خلفية وقف إطلاق نار هش، يهدده وجود مرتزقة أجانب ومليشيات”.
ولمح “غويريني”، إلى مشاركة روما في أي عملية عسكرية لحلف الناتو في ليبيا ضد فاغنر، وصرح أن “إيطاليا ستواصل تحفيز مزيد من الاهتمام تجاه الجناح الجنوبي لحلف الناتو، وستكون بالتأكيد رائدة في أي مبادرات (للناتو) سيتم إطلاقها لتحقيق الاستقرار في المنطقة”.
فالمرحلة المقبلة جد حساسة بالنسبة لليبيين، إذ أن أي تأخير في تحقيق المصالحة وتوحيد البلاد، والإسراع في إخراج مرتزقة فاغنر، وإجراء الانتخابات في موعدها، من شأنه جعل بلادهم مسرحا لصراع روسي أمريكي غير محسوم النتائج.
اقرأ أيضًا: بعد 70 يومًا من إدارة بايدن.. ما هي استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة في ليبيا؟
اضف تعليقا