يبدو أن تداعيات قضية مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، ستظل حاضرة برهة أخرى من الزمن لتطارد عصابات الأمن المصرية، حيث أثارت مصر من جديد غضب النخبة السياسية الإيطالية، بنشر فيلم وثائقي على موقع “يوتيوب” بعنوان “قصة ريجيني”.

ويتبنى الفيلمُ مجهول النسب سردية مغايرة لما استقرت عليه التحقيقات الإيطالية، كما أنه يروج لفكرة المؤامرة، حيث يسرد رواية مفادها أن من اختطف ريجيني وقتله هم مجموعة من معارضي النظام المصري التابعين لجهات أجنبية، تزامنًا مع زيارة وفد إيطالي كبير للقاهرة، ولقاء وزيرة الصناعة الإيطالية في ذلك الحين، فيديريكا جويدي، مع قائد الانقلاب العسكري، عبدالفتاح السيسي.

 

وقد عبر بيانُ النيابة العامة الذي استهدف غلق القضية أواخر العام الماضي عن هذه السردية بشكل واضح، فرغم أن النيابة العامة أغلقت القضية ضد مجهول، إلا أنها قالت إن “سلوك المجني عليه، وتحركاته غير المألوفة، لم تكن خافية على أحد من عوام الناس، بل باتت معلومة للكافة وذاع نبأ البلاغ المقدم ضده، ما قد يكون استغله مجهول، وعزم على ارتكاب جُرمه، متخيراً يوم الخامس والعشرين من يناير 2016، لعلمه بانشغال الأمن المصري يومئذ بتأمين المنشآت الحيوية. فخطف المجني عليه واحتجزه وعذبه بدنيّاً ليُلصق التهمة بعناصر من الأمن المصري. وبالتزامن مع مجيء وفد اقتصادي لزيارة البلاد قتل المجني عليه، وألقى جثمانه في موقع حيوي بالقرب من منشآت هامة، يتبع بعضها جهات شرطية، كأنما أراد إعلام الكافة بقتله ولفت الانتباه إليه. مما أكد للنيابة العامة وجود أطراف معادية لمصر وإيطاليا تسعى لاستغلال الحادث للوقيعة بينهما في ضوء التطور الإيجابي في علاقاتهما خلال الفترة الأخيرة، ويسايرها في ذلك بعض من وسائل الإعلام المعروفة بإثارة الفتن لإحداث تلك الوقيعة. مما انتهت معه النيابة العامة إلى أن ظروف وملابسات الواقعة على هذا النحو لها صورة أخرى لم تكشف التحقيقات بعدُ عنها، أو عن هوية مرتكبها”.

 

وبالتالي، فإن الفيلم الوثائقي يتبنى الرواية التي يحاول النظام المصري ترويجها وتسويقها بشكل رسمي.

 

 

انتقاد إيطالي للفيلم..

 

من ناحيته، انتقد رئيس مجلس النواب الإيطالي، روبرتو فيكو، الفيلم الذي بلغت مدته 51 دقيقة، واستعانت الجهة التي أعدته، ولم تعلن اسمها، بعدد من الشخصيات المصرية والإيطالية غير الرسمية، التي أعادت تدوير التصريحات المصرية الرسمية عن احتمال تورط ريجيني في أنشطة استخباراتية ضد مصر، وأن العصابة المسؤولة عن مقتله “ارتكبت جريمة كاملة”، في إشارة إلى عجز السلطات المصرية عن التوصل إلى الفاعلين، وأن المقصد الأساسي للجريمة كان إفساد العلاقة بين البلدين.

وبرغم عدم الإعلان عن منتجي الفيلم أو الشخصيات التي خلفه، إلا أن كل المصادر والأصابع تشير إلى مكتب عباس كامل، مدير المخابرات العامة المصرية.

يأتي الفيلم استكمالًا للمحاولات المصرية لترويج سردية مخالفة للسردية الإيطالية، لكن ما أغفله الفيلم أن السردية الإيطالية معتمدة على شهود قدموا إفاداتهم للادعاء العام الإيطالي بشكل رسمي، فضلًا عن شهادات أخرى قدمها مؤخرًا نشرتها قناة العربي في فيلم وثائقي عن القضية، بينما استعان الفيلم مجهول النسب بـ 3 عناصر إيطالية، تقُدّموا في الفيلم كونهم خبراء وصحفيين إيطاليين، وان جل حديث هؤلاء عن جزئية العلاقات المصرية الإيطالية، ورغبة بعض الجهات تخريبها، لما تتميز به من “ثبات وتعدد بمجالات التعاون”، مؤكدين أن الشراكة بين القاهرة وروما لن تتأثر بما حدث. وهو ما يعني أنت العناصر الإيطالية ليست شاهدة على ما حدث، ولا تملك أي دليل، بينما الادعاء الإيطالي مؤيَّدٌ بشهود مصريين يعملون في أجهزة أمنية حتى اللحظة.

 

 

 

مصر تعمق علاقاتها مع اليمين المتطرف..

 

من ناحية أخرى، وبينما يصر الادعاء الإيطالي على المضي قدماً في إجراءات المحاكمة للضباط المصريين الأربعة الذين وجه إليهم تهمة قتل ريجيني، مدعوماً من القوى اليسارية، فإن مصر توثق اتصالاتها حالياً باليمين المتطرف وشخصيات حكومية وبرلمانية من يسار الوسط لترويج رواية “المؤامرة”، والتأكيد على أن القاهرة لديها دلائل دامغة عليها، وأن المحاكمة -وإن كانت غيابية- فقد تضر بالعلاقات الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية بين البلدين.

وقررت الغرفة القضائية الإيطالية تأجيل جلسة استماع للادعاء العام في بداية نظر تحريك الدعوى، والتي كانت مقررة يوم الخميس الماضي إلى 25 مايو/أيار الحالي. 

وأوضحت المصادر الدبلوماسية أن التأجيل جاء بسبب تقديم أحد المحامين من المكتب الذي تعاقدت معه السفارة المصرية للدفاع عن الضباط الأربعة ما يثبت أنه مصاب بفيروس كورونا، وعدم قدرته على مباشرة الجلسة. 

وهنا يجدر ذكر أن الضباط الأربعة المتهمين هم اللواء طارق صابر، والعقيد هشام حلمي، والعقيد آسر كمال، والمقدم مجدي عبدالعال شريف. وبحسب القانون الإيطالي، يمكنهم جميعاً مخاطبة الادعاء العام لنفي الوقائع، كما يمكنهم المطالبة بالمثول أمامه للإدلاء بأقوالهم. 

واللواء طارق صابر، أصبح حالياً مساعد وزير الداخلية للأحوال المدنية، وكان خلال الواقعة يعمل مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناء على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية، وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين محمد عبدالله، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر.

أمّا الضابط الثاني، وهو العقيد آسر كمال، والذي كان يعمل رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، وتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، فقد تمّ نقله بعد الحادث بأشهر عدة للعمل في محافظة أخرى. 

أما المقدم مجدي شريف فقد سبق أن نشر ادعاء روما اسماً رباعياً تقريبياً له هو “مجدي إبراهيم عبدالعال شريف”، وهو الضابط الذي أبلغ ضابط إفريقي بأنه سمع منه حديثاً عفوياً أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو “الشاب الإيطالي” كما وصفه، إلى حد القول بأنه “لكمه مرات عدة” بسبب “الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً”. 

وتتجه التحقيقات الإيطالية إلى أن الضابط مجدي شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير الخمسة المشتبه فيهم، في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعاً قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول ريجيني، والتي تضم -حسب الرواية الإيطالي- كلاً من زميلة ريجيني المقربة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة الجائلين محمد عبدالله، الذي يظهر في الفيلم الوثائقي المعد من قبل الأجهزة المصرية.

اقرأ أيضًا: وصلت قضية ريجيني إلى قاعة المحكمة أخيراً… هل تتحقق العدالة؟